جاء قرار المجلس الدستوري القاضي بإبطال القانون رقم 45 الصادر بعنوان «تعديل واستحداث بعض المواد القانونية الضريبية لغايات تمويل رفع الحد الأدنى للأجور وإعطاء زيادة غلاء معيشة…» موجعاً للسلطة السياسية. مصدر الوجع، خلافاً لما أعلن، لا يتعلق بالإرباك الناتج من إبطال القانون الذي كانت وارداته ستوفّر إيرادات إضافية تغذّي كلفة إقرار سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام، بل يتعلق بالحكم الوارد صراحة في المادة الثانية من القرار، الذي يفضح عدم شرعية هذه السلطة في التصرف بالمال العام ونهبه منذ 11 عاماً ونيّف.
تسعير السجال لطمس الحقائق
مع صدور قرار المجلس الدستوري بشأن الطعن بالقانون 45، عملت قوى السلطة على «تسعير» السجال حول الأثر المترتب عن سلسلة الرتب والرواتب بسبب قرار المجلس الدستوري. الهدف كان طمس التوصيف الدقيق الذي وضعه المجلس لمسألة انتظام المالية العامة وضبطها والرقابة عليها، وإخفاء هوية المخالفين والمرتكبين. قدّمت هذه القوى صورة سوداوية عن القرار، وسرّبت الكثير من السيناريوهات عن دوره في إطاحة السلسلة ووقف تسديدها، قبل أن تعود لتقدم نفسها كمنقذ للسلسلة وحامٍ لها، علماً بأن القرار لم يتطرق إلى قانون السلسلة النافذ، بل تحدّث عن دستورية وقانونية قانون استحداث وتعديل بعض الضرائب لغايات تمويل السلسلة.
هكذا ظهرت الاقتراحات بالتدرج؛ من اقتراح قانون معجل لوقف اعتمادات السلسلة، أي تطييرها، إلى استرداد الحكومة للموازنة لتضمينها مواد ضريبية كانت واردة في القانون المبطل، وإحالة المواد الضريبية الواردة في القانون المبطل على مجلس النواب ضمن قانون مستقل تقترحه الحكومة، وصولاً إلى «تسوية» تلتف على الدستور من خلال اقتراح إعداد قطع حساب 2015 والموافقة عليه لإمرار الموازنة التي ستتضمن المواد الضريبية المبطلة (أي إلغاء أي إمكانية للمحاسبة من خلال إعداد قطع حسابات السنوات السابقة)… كل هذا الحديث كان هدفه تجنّب البحث جدياً في مضمون قرار المجلس الدستوري، ولا سيما المادة الثانية منه، وفق الوزير السابق شربل نحاس، إذ إن هذه المادة «تضمنت حكماً بأنه تمّ سلب عشرات مليارات الدولارات من المال العام. هذا الحكم يدين السلطة التي سقطت بلسان مرجعها النهائي»… فما الذي ورد في هذه المادة؟
الانتظام والضبط
تقول المادة الثانية من قرار المجلس الدستوري إن «المجالس النيابية نشأت في الأساس من أجل الحفاظ على المال العام، وعدم فرض الضرائب العمومية والترخيص بجبايتها وإنفاقها إلا بموافقة ممثلي الشعب في السلطة، لكون المال العام هو مال الشعب ولا يجوز التفريط به». وتستطرد هذه المادة في الحديث عن انتظام المالية العامة للدولة وضبط مداخيلها ومصاريفها، مشيرةً إلى أن الانتظام والضبط «لا يتم إلا من خلال موازنة سنوية تتضمن واردات ونفقات لسنة قادمة». وهذه الأخيرة تتطلب «إجراء قطع حساب في نهاية كل سنة مالية، إذ إن الانتظام وخضوع السلطة الإجرائية لرقابة السلطة الاشتراعية في مجال الجباية والإنفاق يقتضي معرفة حقيقية للواردات والنفقات من طريق قطع الحساب». هذا الكلام واضح، فهو يتحدث عن براءة للذمّة تأتي بعد معرفة حقيقية للواردات والنفقات… أين مجلس النواب من هذا الأمر طوال السنوات الـ11 الماضية؟ وأين قطع الحساب الذي يفترض أن تعدّه وزارة المال بالاستناد إلى حسابات المهمة ومراقبتهما من قبل ديوان المحاسبة؟
إنفاق غير دستوري
المادة الثانية لم تكتف بهذا الحكم الصادر ضدّ الطبقة الحاكمة، بل انطلقت في اتجاه أكثر عمقاً، وربطت بين عرض حسابات الإدارة المالية على المجلس الينابي، ومبادئ سنوية الموازنة والشمول وعدم جواز عقد نفقة إلا بتوافر الاعتماد في الموازنة، وعدم تخصيص الواردات… لتؤكد أن إقرار الواردات المنصوص عليها في القانون المبطل جاءت «في ظل غياب الموازنة المستمر منذ سنوات عديدة».
وعند هذه النقطة بدأ المجلس بتلقين السلطتين التنفيذية والتشريعية درساً في الدستور، لافتاً إلى أنه «كان ينبغي أن تصدر الموازنة في مطلع كل سنة وأن تشتمل على جميع نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة». ثم يضيف أنه «لا يجوز للدولة الجباية إلا بصك تشريعي يتجدّد سنوياً، وهو بالتحديد الموازنة…
وبما أنه في الأنظمة الديمقراطية لا شرعية للضريبة إلا إذا كانت قد أقرت جبايتها بحرية من قبل الأمة، ويعود لمجلس النواب أن يعبّر عن هذه الموافقة التي لا يمكن إلا أن تكون مؤقتة والتي يجب تجديدها دورياً (من خلال إدراجها في الموازنة وإقرارها سنوياً)».
كل هذا العرض الدستوري انتهى إلى القول بأن إنفاق السلطة خلال الـ11 عاماً الماضية بلا موازنة، ليس له سند قانوني، إذ إن الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية الذي استعملته هذه السلطة كل هذه الفترة، كان مخالفاً للدستور «لولا الإذن الاستثنائي لما أجيز للدولة القيام بالجباية خلال شهر واحد (القاعدة الاثني عشرية)… هذه القاعدة صالحة لشهر واحد فقط، وهي مرتبطة بالدعوة إلى عقد استثنائي من أجل إقرار الموازنة».
يعلّق الأمين العالم لحركة «مواطنون ومواطنات في دولة» شربل نحاس، على المادة الثانية من قرار المجلس الدستوري دون غيرها من مواده، بالإشارة إلى أنها «حدث كبير»، فالمجلس «أعلن صراحة عدم شرعية السلطة في التصرف بالمال العام لا إنفاقاً ولا جباية منذ 2006 إلى اليوم». فهذا القرار يفرض مساراً واضحاً، إذ إن «مصدر الشرعية في الدولة يفرض أن تنجز حسابات الدولة، وأن يُحاسب من جبى وصرف من دون مسوغ قانوني».
في الواقع، أطاح هذا القرار كل محاولات تشريع الإنفاق بواسطة القاعدة الاثني عشرية، وهو يضع النقاط على الحروف، مشيراً إلى أن الامور وصلت إلى هذا الحدّ وأنه يجب التعامل معها من دون مواربة ولا تحايل. وبرأي نحاس، إن «ما يضفي هذا القرار ثقة وصدقية كبيرة على مضمونه، أنه يصدر عن المرجع الأعلى الذي تتبع له هذه السلطة وهو أسقط شرعيتها ما يوجب الشروع بالمحاسبة والتحقيق بالأموال».
في السياق نفسه، لا يجب أن يثير هذا القرار وضعاً ملتبساً لدى الطبقة العاملة «فعندما تسقط هذه الشرعية بلسان مرجعها، ما يبقى من الدولة هو الإدارة والشعب اللذان باتت لديهما شرعية إزاحة السلطة السارقة والناهبة. فهل يمرّ القرار مرور الكرام؟ هذا القرار ردّنا إلى الكلام عن الإبراء المستحيل، فقد صدر الحكم وبات الإبراء مستحيلاً. المطلوب تطبيق الحكم. إذا كان الإبراء مستحيلاً قبل الحكم فهل يصبح جائزاً بعده؟ يجب ألا يكون التعامل مع قرار المجلس الدستوري على أنه دراسة أكاديمية، وألا يُتبرأ منه».