كتب إيلي القصّيفي في صحيفة “المستقبل”:
إذا كان أحد في لبنان لا يمكنه إنكار العبء الذي يخلّفه وجود ما يزيد عن المليون ونصف المليون نازح سوري فضلاً عن وجود نحو نصف مليون لاجئ فلسطيني على الأراضي اللبناني، على الإقتصاد والأمن والسياسة اللبنانية، إلّا أنّ كيفية التعاطي مع هذا الواقع لا يمكن أن يحدّدها مجرّد التبرّم السياسي والاجتماعي من أعباء النزوح واللجوء، إنمّا المعطيات السياسية والأخلاقية التي يمكن الإستناد إليها للتعامل مع هذا الواقع الصعب.
في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن خطر النازحين السوريين إلى لبنان مقترناً بسيل من التحذيرات من سعي الدول الغربية إلى توطينهم فيه، خصوصاً بعد خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الأمم المتحدة والذي اعتمد بعض الإعلام والقوى السياسية ترجمة مغلوطة له، بهدف البناء عليها للقول إن ترامب يريد توطين السوريين في لبنان، كما حصل لاحقاً.
الحلّ لهذه المعضلة الإنسانية التي لم يواجه لبنان مثيلاً لها من قبلُ، لا يستقيم، بالنسبة للعديد من القوى السياسية إلّا بالتنسيق مع حكومة النظام السوري التي تصوّرها هذه القوى وكأنّها ملهوفة لعودة السوريين، الذين هرب معظمهم من قصف طائراتها وقذائف مدافعها، إلى أحضانها.
هكذا ومنذ أشهر ينبري مسؤولون وسياسيون لبنانيون بوتيرة يومية تقريباً لتذكير اللبنانيين بأنّه لا بدّ من التنسيق مع النظام السوري لإعادة النازحين السوريين إلى ديارهم وإلّا وطّنوا في لبنان. لكنّ السؤال الذي يطرح في هذا الإطار: هل الحكومة السورية راغبة فعلاً في عودة هؤلاء إلى بيوتهم؟
من النافل القول إنّ نظاماً سياسياً يقصف المدن بالبراميل المتفجرة غير آبه بأعداد الضحايا التي يمكن أن يتسبب بها هذا القصف من أطفال ونساء، لا يمكن التصوّر أنّ هدفه تأمين عودة الهاربين من بطشه وآلته الحربية إلى مدنهم وقراهم. لكن ليس هذا فحسب ما يؤكدّ عدم رغبة النظام السوري بعودة النازحين إلى بلادهم. فأركان النظام بدءاً من رئيسه بشار الأسد أفصحوا مراراً عن حقيقة موقفهم من هذه العودة، والتي تخالف ما يروّج له مسؤولون وسياسيون في لبنان عن أنّ مجردّ التنسيق مع الحكومة السورية كافٍ لعودة النازحين السوريين قوافلَ إلى بلادهم.
ألم يقل الأسد في خطابه، خلال افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين في آب الماضي: «خسرنا خيرة شبابنا فضلاً عن تضرر بنيتنا التحتية لكن في المقابل ربحنا مجتمعاً أكثر صحّة وأكثر تجانساً». وحريّ بدعاة التنسيق مع النظام السوري لتحقيق عودة النازحين السوريين إلى بلادهم أن يسألوا الأسد إذا كان مستعداً أن يعود إلى حكم مجتمع أقلّ صحّة وتجانساً، ما دامت الحرب وموت مئات الآلاف من السوريين وهجرة الملايين منهم، جعلت المجتمع السوري، بحسب الأسد، أكثر صحّة وتجانساً. حريّ بهم قبل دعوة الحكومة اللبنانية إلى التنسيق مع النظام السوري أن يسألوا رئيسه إن كان مستعداً لتقديم تنازل من هذا النوع؟! علماً أنّ الأسد كان قد قال خلال جولته في مدينة داريا المهجورة والمدمرّة تدميراً كاملاً في عيد الأضحى، أنّه «في بلد متنوع كسوريا، الحالة الديموغرافية تتبدّل عبر الأجيال بحسب مصالح الناس الإقتصادية والحالة الاجتماعية»، وذلك بعد إشارة مراسل التلفزيون السوري إلى إقامة صلاة العيد من دون الأهالي! ولعلّ دعاة التنسيق مع حكومة دمشق، يسألون أنفسهم، ما الذي يمنع أهالي داريا من العودة إليها بعد «عودتها إلى خضن الوطن»؟!
ليس تصريح الأسد عن تجانس المجتمع السوري وحده ما يكشف ما يضمره أركان النظام للنازحين السوريين. تكفي العودة في هذا السياق إلى تصريحات قائد الحرس الجمهوري في قوات النظام السوري في دير الزور العميد عصام زهر الدين، والذي توعد فيها النازحين السوريين، الذين وصفهم تهكّماً بـ «الهاربين»، ونصحهم بعدم الرجوع إلى سوريا، قائلاً: «أرجوك لا تعد وإن سامحتك الدولة، لأننا لن ننسى ولن نسامح»، وسط قهقهات «رفاق السلاح» الموجودين في المكان! قبل أن يتراجع عن تصريحاته لاحقاً، بالقول: بـ «إمرة بشار الأسد، مرحبا بالذين سيعودون من الشرفاء إلى حضن الوطن».. ومن المعلوم أنّ، معيار الشرف، بالنسبة للنظام السوري، هو مقدار الولاء له!
أمّا وزير خارجية النظام وليد المعلمّ فقال في حديث تلفزيوني أخيراً، رداً على سؤال عن ضمان الحكومة السورية عودة النازحين إلى بلادهم: «نحن نضمن سلامتهم لكن لا نستطيع أن نجبر أحداً على العودة. هذه عودة طوعية إلى أرض الوطن، وأنا أعتقد أن معظمهم راغب في العودة..». كما كان لافتاً خلال المقابلة أنّ المعلم تجنب الإجابة عن سؤال عمّا إذا كان اللقاء بينه وبين وزير الخارجية جبران باسيل تطرّق إلى مسألة النازحين السوريين!
المهمّ أنّ المعلم تحدث عن عودة طوعية للنازحين، وهي العبارة التي لا يطيق دعاة التنسيق مع الحكومة السورية سماعها، إذ بالنسبة إليهم عودة هؤلاء يجب أن تكون إلزامية بالتنسيق مع النظام السوري! فإما أنّهم لا يتابعون التصريحات السورية، وإمّا أنّ هدفهم من وراء الدعوات الملحّة للتنسيق مع الحكومة السورية أمرٌ آخر عن أمر عودة النازحين إلى ديارهم!