Site icon IMLebanon

«داعش» يُدشِّن استراتيجية «سمكة الصحراء»

كتب ناصر شرارة في صحيفة “الجمهورية”:

ما الذي أيقظ تنظيم «داعش» من سبات موته الذي بدا أنّه دخَل فيه، وذلك بعد نجاح الحملات العسكرية الاستراتيجية في دخول معاقِله الأساسية في كلّ من العراق وسوريا وحتى في لبنان؟
الإجابة عن هذا السؤال شكّلت هاجساً مستجداً للأجهزة الأمنية العالمية التي تفاجأت بما سمّته مصطلحاتها باستيقاظ «داعش» من سبات موته، وتنفيذه فجأةً عدّة هجمات معاكسة جعلته يستعيد مناطقَ تقع في عمق البقعة التي كان انسحبَ منها بفِعل الهجمات العسكرية الأخيرة التي شُنَّت ضده سواء في العراق أو في سوريا.

وتكمن المفاجأة في أنّ «داعش» هجَم في توقيت مفاجئ وغير متوقّع، عبر أكثر من محور، على مناطق سيطرة الجيش السوري وحلفائه في البادية، ونجَح في السيطرة على مدينة القريتين في ريف حمص، وذلك بالتزامن مع مهاجمته مناطقَ عراقية متعدّدة في الأنبار والإسحاقي ومحافظة صلاح الدين.

والرسالة الأساسية التي تركتها هذه الهجمات، بغَضّ النظر عن ما تحقّق لجهة احتواء الجيشين السوري والعراقي وحلفائهما الدوليين والاقليميين هذه الهجمات، هي أنّ تنظيم «داعش» لم يتلقَّ كما شاع ضربةً استراتجية قاضية خلال الشهرين الماضيين، وأنّ كلّ ما حصَل هو أنه مارَس في مواجهة الهجمة العسكرية الدولية والإقليمية على معاقله، تكتيكات عسكرية تخدم فكرةَ انتقاله من مرحلة استراتيجية في حربه الإرهابية إلى مرحلة أخرى جديدة. وفي اختصار تركت هجمات «داعش» الأخيرة رسالة عن بدء تدشين حالة نزاعية عسكرية وأمنية معه، تتّسم بأنّها أخطر من سابقتها!.

والسؤال الذي يطرح نفسَه في هذا المجال، هو عن ماهية هذه المعطيات التي تملكها الأجهزة الاستخباراتية العالمية، والتي دعتها إلى تكوين هذا الانطباع المقلِق في خصوص معاني هجمات «داعش» الأخيرة؟.

وتقع الإجابة عن هذا السؤال في ثلاث مجالات، أوّلها نظري ومستخلص من التجارب السابقة مع الإرهاب منذ بن لادن مروراً بالزرقاوي وصولاً إلى أبو بكر البغدادي.

وثانيها معلوماتي ويتحدّث عن تطوّرات حصلت داخل «داعش» خلال الشهرين الماضيين. وثالثها، يتصل بثغرات في تحالفات العالم ضد «داعش»، خصوصاً في سوريا، نفّذ منها البغدادي واستثمر فيها:

ـ المجال الأوّل، ومفادُه أنّه منذ بدء المسار الدولي لإخراج «داعش» من ملاذاتها المكانية الأساسية، في الرقة ودير الزور والموصل، حذّر خبراء في مكافحة الإرهاب من الوقوع في «الخطأ الاستراتيجي» الذي وقعت فيه أميركا بعد قتلِها أسامة بن لادن، حيث كانت الاستخبارات الأميركية تعتقد أنه بقتل رأس «القاعدة» يمكن القضاء على هذا التنظيم. ولكن تبيّنَ لاحقاً أنّ تنظيم «القاعدة» أشبَه برحم يولِد الإرهاب وسلالات أجياله، وأنّ بن لادن رقم مهم فيه، ولكنّ غيابه لا يؤدي الى إنهاء «القاعدة»، بل ربّما يؤدي إلى استيلاد رحم «القاعدة» جيلاً جديداً من «المجاهدين» وتجربة جديدة من الإرهاب تتّسم بأنّها أخطر من سابقتها.

هذه النظرية نفسُها كرّرها هؤلاء الخبراء عندما اعتبروا أنّ إخراج «داعش» من معاقلها المكانية لن يؤدّي بالضرورة الى إنهائها كتنظيم وكحضور إرهابي في العالم، بل قد تفاجئ «داعش» العالم مرّةً أخرى بأنه وقع في «الخطأ الاستراتيجي» عينِه الذي كان قد وقعَ فيه بعد قتلِ بن لادن.

وثمّة ميلٌ حالياً لدى مستويات الأمن العالمية إلى اعتبار هجمات «داعش» الأخيرة بأنّها إحدى تعبيرات تطبيقات حالة الخطأ الاستراتيجي الناجم من فشلِ التقدير الاستراتيجي العالمي الذي اعتقد أنّ إخراج «داعش» من معاقلها المكانية سيؤدي إلى إنهاء ظاهرتها.

ـ المجال الثاني يتّصل بسياق أحدثِ معلومات متداولة حالياً في كواليس أجهزة أمنية متابعة لملفّ الحرب على «داعش»، والتي تُظهر أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق مارَس خلال الشهرين الماضيين اللذين هما عمر الهجمة الدولية على معاقله المكانية، تكتيكات تَخدم فكرة انتقاله من حالة عسكرية إلى أخرى للحفاظ على وجوده.

وفحوى هذه المعلومات أنّ «داعش» دخل مرحلة تطبيق استراتيجية «سمكة الصحراء» وقوامُها التخلّي عن استراتيجة تمسُّكِه بالأرض، حتى لا تدمّره الحملات الجوّية والهجمات العسكرية البرّية الكلاسيكية، وبدلاً من ذلك قام خلال الفترة الماضية بشراء الوقتِ من أجل بناء خطة دفاعية تُقارب مصطلح جديد أضافَه الى استراتيجيته العسكرية، يسمّى «سمكة الصحراء» التي تعني الظهورَ العسكري في الزمان والمكان غير المحدَّدين أو المتوقّعين، وذلك من خلال استعمال مجموعات صغيرة ليست بالآلاف كما في السابق، بل بالعشرات، وأحياناً بالمئات، تتحرّك من اتجاهات مختلفة وتعتمد في هجماتها على مناورات عالية المستوى في ترتيب حركتها، وعلى أسحلة نوعية ضمن المتوافر لديها، وعلى عناصر شديدة التدريب مدعّمة بانتحاريين وانغماسيين. سيكرّر»داعش» ضمن هذه الاستراتيجية نموذجاً استَخدمه خلال السنوات الماضية في منطقة «الرطبة» العراقية التي سيطر عليها وانسَحب منها أكثر من مرّة.

وأهداف «داعش» من استراتيجية «سمكة الصحراء»، تعتبر أنّ السيطرة على الأرض ضمن ظروف الحرب الراهنة، لم يعد لها أهمّية استراتيجية، بل العامل الاستراتيجي يقع حالياً في تحقيق ثلاثة أهداف: العامل المعنوي، بمعنى تحطيم روح الخصم المعنوية في مقابل رفعِ معنويات عناصر «داعش» عبر العالم، والثاني، إيقاع الخسائر بالقوات المقابلة وإرغام أركان علمياتها على الانكفاء لإعادة تقويم الوضع العسكري.

وضمن هذا السياق المعلوماتي عن خطة «داعش» في المرحلة الجديدة، كشَفت مصادر معنية بهذا الملف لـ»الجمهورية» أنّ «أبو بكر» البغدادي بعد معركة الموصل، وبعدما كان قد نقلَ صلاحياته في نيسان الماضي إلى اللجنة المفوّضة، حصَل خلاف حادّ بين التيارات المتشدّدة في «داعش» وبين هيئة التنظيم فيه، ما اضطرّ البغدادي الى عقدِ اجتماع في 6 أيار الماضي لأركان التنظيم ومجموعاته الأساسية، أعاد خلاله ترتيب أوضاع التنظيم حيث عزل اللجنة المفوّضة السابقة وعيّن قيادة جديدة برئاسة أبو عبد الرحمن الزرقاوي المهاجر، وأعاد هيكلة التنظيم وفق أولوية التمسّك بالأيديولوجيا، وكذلك تمّ ترسيخ استراتيجية جديدة تتخلّى عن الحروب الكلاسيكية والسيطرة على المدن لمصلحة تدشين حرب استنزاف.

ـ المجال الثالث، يتصل بالوضع السياسي المائع للتحالفات التي تواجه «داعش» في سوريا خصوصاً، وهذا ما لمَّح البغدادي إليه في شريطه المسجّل الذي بثّه بعد سنتين من صمتِه، ولفتَ فيه الى تشقّقِ التحالف المعادي لتنظيمه نتيجة استفتاء كردستان، وأيضاً نتيجة الخلاف على دور «قوّات سوريا الديموقراطية» (قَسَد) في سوريا بين القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الحرب على «داعش».

ويرى تنظيم «داعش» أنّ هذه التشقّقات تمنَحه فرصةً ثمينة للتسلّل بينها لتنفيذ ضربات تُحبط معنويات التحالف المعادي له، وترفع معنويات حالات «داعش» عبر العالم، ومِن هنا جاء نداء البغدادي إلى محازبيه لتوجيه ضربات في كلّ العالم.