على ضوء التواجد المحوري الروسي في منطقة الشرق الأوسط، سياسيا وعسكريا، يقدم الباحث ديمتري أدامسكي قراءة استشرافية للدور الذي قد تضطلع به موسكو في حال اندلعت مواجهة مسلحة جديدة بين إسرائيل وحزب الله. ويرسم أدامسكي في دراسته التي نشرتها مجلة شؤون دولية (فورين أفيرز) التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، دورا كبيرا لروسيا التي ستفيدها الحرب من جهة لتحجيم حزب الله، ومن ورائه إيران حليفته ومنافسته في نفس الوقت في سوريا، ومن جهة أخرى يتوقع الباحث أن تلعب موسكو الدور الذي كان المفروض أن تضطلع به واشنطن لكن تعطل الإدارة الأميركية الحالية وعلاقات الكرملين الإقليمية يمكن أن يجعلا موسكو طرفا أنسب في العيون الإسرائيلية.
صحيفة العرب اللندنية – ترجمة: منصف الخروبي
باستعادة قوات موالية للنظام في سوريا السيطرة على أجزاء مهمة من البلاد شرع المخططون الإسرائيليون في التركيز من جديد على إمكانية نشوب حرب جديدة مع حزب الله أحد الحلفاء الكبار للنظام السوري. وانتهت الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله في سنة 2006 إلى أكثر من عقد من الهدوء على طول حدود إسرائيل الشمالية، لكن بعد أكثر من عشر سنوات من ذلك التاريخ طوّر حزب الله بشكل كبير من حجم وتطور ترسانته وحسّن موقعه السياسي داخل لبنان.
ويمكن أن تندلع حرب جديدة لعدة أسباب ومنها إذا نتج عن تصور خاطئ من جانب حزب الله أو إسرائيل تصعيد غير مقصود، أو إذا قرر أحد الطرفين استغلال فترة ضعف متصورة من الجهة الأخرى للقيام بهجوم، أو إذا تجاوز سلوك أحد الطرفين الخطوط الحمر عند الآخر.
المخططون الاستراتيجيون في إسرائيل لا يشككون في احتمالية الحرب مع حزب الله لكنهم يتساءلون كيف سترد روسيا (رفيق السلاح مع إيران وحزب الله في سوريا) على مثل هذا الصراع. قامت إسرائيل مؤخرا بتكثيف ضرباتها ضد حزب الله في لبنان وسوريا وقد نجحت إلى حدّ الآن في الحفاظ على تسوية مؤقتة مع الكرملين، وفي كثير من الحالات عبر توسلات شخصية للرئيس الروسي فلادمير بوتين.
هذا النموذج قد لا يصمد في الحرب المقبلة فإذا تضارب القتال بين إسرائيل وحزب الله مع المصالح الروسية ستكون موسكو في موقع جيد للحد من تحرك الطرفين وللمساعدة على تسوية الصراع. وربما يستغل الكرملين حربا كهذه لتحسين موقعه ونفوذه في الشرق الأوسط الأوسع.
مع استقرار الوضع في سوريا تعمق تنافس روسيا وإيران على النفوذ هناك. ويريد الكرملين الحفاظ على ممتلكاته في ظل أيّ تسوية سياسية مستقبلية حتى وإن تم تعويض أو تحويل البلاد إلى اتحادات فيدرالية. وبالمثل تسعى إيران إلى تقوية سلطتها بشروطها الخاصة. وهكذا فإن كلا البلدين يسعيان إلى الحصول على موطئ قدم دائم في سوريا والنفوذ الجيوسياسي في المنطقة، لكن الأراضي التي استردها الأسد لا يمكن أن تستضيف عرّابين مختلفين.
تتحول الطموحات الإيرانية إلى مشكل بالنسبة إلى روسيا، لذلك يسعى الكرملين لرسم حدود للطموحات الإيرانية دون إفساد العلاقات مع هذا البلد الذي يبقى الحليف الأكبر في المنطقة. وباختصار تفضل موسكو أن يكون حضور إيران وحزب الله في سوريا لا مسرفا في القوة ولا في الضعف.
وقد يصبّ تصميم إسرائيل على استخدام القوة في اتجاه تحقيق هذا الهدف. فإذا اندلع الصراع بين إسرائيل وحزب الله من المحتمل أن تترك موسكو حزب الله وإيران ينزفان لإضعاف موقعهما الإقليمي، لكن ستسعى إلى الحيلولة دون حصول انتصار إسرائيلي تام بما أنها مازالت في حاجة إلى حزب الله كفاعل استراتيجي في المنطقة، ولأن فعل ذلك قد يبرهن لإسرائيل عن حدود قوتها.
وأحسن نتيجة بالنسبة إلى الكرملين ستكون حربا قصيرة محصورة في لبنان ثم تتوقف وتسمح لكل من إسرائيل وحزب الله بادعاء الانتصار بعد اللجوء إلى موسكو للتوسط في وضع نهاية للقتال. والنتيجة الأسوأ ستكون مزيدا من التأزم في لبنان (وهو تطور من شأنه أن يحول البلاد إلى صندوق مفاجآت) وانتشار القتال إلى مرتفعات الجولان السورية، وهو ما من شأنه أن يضرّ بإنجازات موسكو في تهدئة الوضع في سوريا وقد يزعزع استقرار المنطقة. ولا ترغب موسكو لا في الانتصار الكامل لحزب الله ولا في القضاء عليه بشكل فعال، وذلك لأن النتيجة الأولى قد تكسب الحزب الجرأة إلى درجة غض النظر عن موسكو، والثانية لأنها ستجعل من روسيا تبدو في صورة الحليف غير المعوّل عليه. ومهما كانت النتيجة ربما تحاول موسكو “تجميد” الصراع (وهو إجراء مارسته في الأقاليم التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي سابقا مثل أبخازيا والدونباس وناغورنو-كراباخ وأوسيتيا وترانسنيستريا)
ويتطلب ذلك الإبقاء على التوتر بين الطرفين مرتفعا بما فيه الكفاية للحفاظ على مستقبل التوسط والتدخل من قبل موسكو، لكن ليس عاليا إلى درجة التسبب في حرب مطولة. إن الإبقاء على نوع من الاستقرار الهش في لبنان من شأنه أن يزيد في اعتماد كل الأطراف على روسيا، وهكذا يتم الحفاظ على ضرورة وجود روسيا في المعادلة. ومن ثم يمكن للصراع بين إسرائيل وحزب الله أن يخلق فرصة لروسيا طالما تمكنت من تفادي تصعيدات ذات نتائج عكسية.
فترات الخطر الأقصى
ستكون الحرب المقبلة بين إسرائيل وحزب الله متميزة بنظريات جديدة عن النصر تبناها الطرفان منذ حربهما الأخيرة. ولا يتوقع أن يقتصر حزب الله على توجيه وابل من الصواريخ ضد المدنيين الإسرائيليين مثلما فعل في الماضي. بل سيسعى كذلك إلى إلحاق الضرر بالآليات العسكرية الإسرائيلية إذ يمكن للتحسينات المدخلة على دقة ومدى صواريخ حزب الله وزيادة عددها أن تسمح له بضرب أهداف ذات أهمية عملياتية مثل القواعد الجوية الإسرائيلية أو المعدات المستعملة في جمع المعلومات، أو حتى تجمعات الجنود. كما يتوقع المخططون الإسرائيليون بأن ينفذ عدد قليل من الوحدات النخبوية عند حزب الله مناورات متطورة في الأراضي الإسرائيلية.
وإسرائيل من جهتها، من المرجح أن تنفذ ما يسمّى بعملية ردعية أخرى، وهو خيارها الافتراضي خلال صراعات العقد الأخير، وقد سعت فيها في الغالب إلى إلحاق أضرار محدودة بأعدائها من أجل استباق جولات من العنف في المستقبل. ويمكن بدل ذلك أن يقع ما يسميه المخططون الإسرائيليون بـ”القرار على ميدان المعركة”، أو الانتصار غير المتنازع حوله على الأرض مصحوبا بصورة النصر. ولن تسعى إسرائيل إلى القضاء على حزب الله لكنها ربما تقترب من ذلك.
وقد تعرّض حرب تصوغها مثل هذه المبادئ المصالح الروسية للخطر. فالوضع الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى موسكو ينجم عن إلحاق روسيا الضرر بحزب الله أكثر مما يحتاجه الكرملين ثم ملاحقة التنظيم أكثر بهدف تحقيق انتصار حاسم. إن جعل حزب الله على حافة الدمار من شأنه أن يضعف إيران، راعي حزب الله والحليف الإقليمي الأساسي لروسيا، لذلك قد تضغط موسكو على إسرائيل للتراجع. لكن حماسة حزب الله الكامنة للتصعيد قد تكون غير متسامح معها بدرجة متساوية فربما يحفّز ذلك الانتقام الإسرائيلي في سوريا وإيران ممّا يزيد في إشعال الشرق الأوسط دون إفادة موسكو.
ويتوقف المدى الذي ستسعى إليه روسيا لكبح إسرائيل وحزب الله على حالة الحرب السورية.
التصعيد من أجل خفض التوتر
إذا كانت موسكو عاجزة عن التوسط للتوصل إلى نهاية سياسية للحرب يمكنها أن تحاول إكراه الطرفين على إنهاء القتال بمفردهما. وبدافع الرغبة في توليد الفوائد القصوى بأقل ما يمكن من الاحتكاك قد تنفذ موسكو عمليات سيبرانية محدودة ضد أهداف مدنية في إسرائيل مثل الموانئ ومصافي النفط. فهذه الهجمات ستبدو أقل تصعيدا ومن السهل تنفيذها مقارنة بأهداف ضد البنية التحتية العسكرية، ويمكن لروسيا أن تعزوها إلى ايران أو حزب الله للاستفادة من إمكانية الإنكار الوجيهة وتفادي مواجهة مباشرة مع إسرائيل.
ويمكن لموسكو بعد ذلك أن تبعث برسالة مفادها بأنه ما لم تقلّص إسرائيل من حدّة عدوانها على حزب الله، باستطاعة روسيا أن تضغط على “زر أحمر” آخر وهو عبارة عن نقطة ضعف رقمية مزروعة مسبقا داخل البنية التحتية الإسرائيلية الحساسة يمكن استغلالها وقت الحاجة. وأخيرا لتقويض تماسك الجمهور الإسرائيلي يمكن أن تنشر معلومات مضللة أو تعرض أسرارا حقيقية لإطلاق فضيحة وسط الرأي العام.
وعلى أرض المعركة يمكن لروسيا أن تحاول جعل المخططين الإسرائيليين يظنون أن جنودا روسا يتمركزون قريبين جدا من حزب الله الى درجة أن ضرب أحد الطرفين سيعرض الاثنين للخطر. وإذا فشل ذلك، يمكن لموسكو أن تهدد باستخدام فقاعات مضادة للدخول أو الحرمان من المناطق لمنع القوات الإسرائيلية من ضرب أهداف تابعة لحزب الله في سوريا ولبنان. وفي المستوى الموالي من التصعيد يمكن أن تخرّب إلكترونيا الضربات الإسرائيلية الدقيقة أو تشوش على الطائرات دون طيار الإسرائيلية أو تسقطها.
وإن استمرت إسرائيل في عدم الاستجابة يمكن أن تنفذ موسكو عملية تخريب سيبرانية ضد بطاريات القبة الحديدية للدفاع الصاروخي، أو تتدخل في صفارات الإنذار ضد الغارات الجوية أو أنظمة الإنذار المبكر على مواقع التواصل الاجتماعي، وترفق هذه الخطوات بحملة إعلامية عن ضعف الدفاع المدني الاسرائيلي بهدف إحداث الفزع في صفوف عامة الناس.
لكن من المرجح أن تكون روسيا براغماتية إذ من المحتمل أن تسعى إلى الضغط على حزب الله أيضا، ليس فقط عن طريق إيران وسوريا لكن كذلك بصورة مباشرة. فبعد عامين من القتال جنبا إلى جنب مع التنظيم المقاتل في سوريا تعرف موسكو عن قرب قيادته والتحكم فيه وهيكلة اتصالاته والتكنولوجيا التي تدعمها. فيمكن لروسيا أن تحاول الإضرار بهذه البنى الإلكترونية إذا ذهب الهجوم الصاروخي لحزب الله بعيدا. وفي الوقت نفسه يمكن لروسيا أن تسعى إلى إقناع حزب الله على افتراض أنه سيتقبل طلباتها بعد أن أنهكته الحرب في سوريا.
ستكون روسيا معنية بالحرب المقبلة أكثر من أيّ وقت آخر. فمازالت ردة الفعل الإسرائيلية الغريزية تتمثل في اللجوء الى الولايات المتحدة أثناء الأزمات، لكن تعطل الإدارة الأميركية الحالية وعلاقات الكرملين الإقليمية يمكن أن يجعلا موسكو طرفا أنسب في العيون الإسرائيلية، خاصة وأن إسرائيل أقامت معها عدة تبادلات عسكرية وسياسية.
وإذا لجأت إسرائيل إلى روسيا للمساعدة على معالجة الأعمال الحربية سيكون ذلك أكبر انعطاف من نوعه منذ سنة 1967 عندما لجأت إسرائيل إلى الاتحاد السوفييتي في محاولة لمنع حرب الأيام الستة. وسيعني هذا الطلب بأنه بعد بضع سنوات من التدخل الروسي في سوريا سيكون بوتين قد استعاد بالكامل مكانة موسكو في الشرق الأوسط بعد أن خسرتها قبل خمسة عقود. وإذا اندلعت الحرب بين إسرائيل وحزب الله قد تكون روسيا هي الرابح.