كتب جورج شاهين في صحيفة “الجمهورية”:
ولا ينسى المراقبون الديبلوماسيون والخبراء العسكريون المحاولات التركية مع الولايات المتحدة الأميركية لإنشاء «المنطقة الآمنة» أولاً قبل ان تطرح خططها على عدد من مؤتمرات الحلف الدولي، وخصوصاً تلك التي جمعت قادة الجيوش فيها التي توزّعت منذ انطلاقتها في 11 أيلول 2014 من جدة في المملكة العربية السعودية الى تلك التي عقِدت في أنطاليا وأنقرة في تركيا وعمان في الأردن ومقرّ الحلف الأطلسي في جنيف ووزارة الدفاع في واشنطن والرياض ولم تلقَ قبولاً لدى أيّ منها، لا بل فقد جوبِهَت بالرفض الأميركي، خصوصا عندما اعلنَت خيارَها العدائي رفضاً لتحرّكات الأكراد اكبرِ حلفاء واشنطن في المنطقة على حدودها.
ولمّا كانت تركيا تنتظر اللحظات المثالية لترجمةِ ما ارادته، فقد اختارت في 22 شباط 2015 القيامَ بعملية عسكرية داخل الأراضي السورية على وقعِ النيران التي اقتربَت من حدودها، وبرّرتها يومها بنقلِ ضريح احدِ قادتها التاريخيين سليمان شاه جدِّ مؤسّس الإمبراطورية العثمانية موقّتاً في سوريا وهو الموجود على بُعد 180 متراً من الحدود التركية، و22 كيلومتراً غرب قرية عين العرب الكردية وشمال قرية أشمة، وهي منطقة لتركيا سلطةٌ على ارضِها بموجب اتفاقية سابقة مع سوريا وُقّعت مع فرنسا عام 1921 عندما كانت تحكم سوريا وجعلته بما يحيط به «أرضاً تركية سيادية» وأخلته من نحو 40 جندياً تركيّاً كانوا يَحرسونه.
وأمام فشلِ الأتراك من تحقيق الحلم بنَيلِ موافقة حلفائهم على ايّ عملية عسكرية، فقد شكّلت المحاولة الانقلابية التي قادتها مجموعة ضباط من القوات البرية والجوية التركية ضد اردوغان وحكومته في 15 تموز 2016 الفرصةَ الذهبية للتحرّر من التنسيق الإجباري مع واشنطن وبعض قادة الحلف الدولي في هذا الأمر. وجاءت المساعدة الروسية التي قالت أنقرة إنّها ساندتها في كشفِ الانقلاب لتخوضَ مواجهتها مع الانقلابيين.
فبدأت باستعجال رسمِ المنطقة الأمنية على طول حدودها مع سوريا وقطعِ أيّ تواصُل جغرافي أو مادي يمكن ان يقوم بين المناطق الكردية على حدودها، وتحديداً ما بين عفرين غرباً وكوباني شرقاً، فأطلقت بعد خمسة اسابيع عملية «درع الفرات» من «جيب جرابلس» بغَضّ نظر اميركي وصمتِ بقية الأطراف الدولية سعيا الى منطقة عازلة بعمق 40 كيلومتراً وعرض يزيد على تسعين كيلومتراً، فكانت اللحظة التي حقّقت فيها أنقرة اوّلَ أحلامها بالعودة الى ادارة وحكم أراضٍ سورية قبل ثلاث سنوات من الذكرى المئوية الأولى لنهاية انتدابها للمنطقة.
ولمّا بات التدخّل التركي مشروعاً في نظر عددٍ من الأطراف، وخصوصاً بعد تماديها في الابتعاد عن خط وتوجّهات واشنطن والحلف الدولي وتقرّبِها من موسكو وطهران، توغّلت تركيا مجدداً تحت شعار «حلفها الثلاثي الجديد» مع كلّ من موسكو وطهران في سوريا، فكانت وجهتها إنشاء «منطقة ادلب» وحمايتها وإدارتها تحت ستار تنفيذ مقرّرات «أستانا 6» والتي قضَت بإنشاء «المنطقة الرابعة» من مناطق خفض التصعيد السورية بعد درعا وريف حمص والغوطة الشرقية.
ولا يُغفل المراقبون العسكريون والديبلوماسيون هذا العرضَ السريع المؤرّخ للتحركات التركية العسكرية على الأراضي السورية من دون الدخول في تفاصيل كثيرة رافقتها لقراءة الموقف السوري الرسمي تجاهها. ففي كلّ هذه المراحل كانت وزارة الخارجية الروسية تُصدر بيانات متشابهة تدين توغّلَ الجيش التركي في الأراضي السورية وصولاً الى التدخّل الأخير في محافظة إدلب، معتبرةً انّه يشكّل «عدواناً سافراً على سيادة الأراضي السورية وسلامتها، وانتهاكاً صارخاً للقانون والأعراف الدولية».
وهي طالبَت وما زالت تطالب بـ«خروج القوات التركية من الأراضي السورية فوراً وبلا أيّ شروط» لأنّ هذا «التوغل عدوانٌ صارخ لن يستطيع النظام التركي تبريرَه أو تسويقه بأيّ شكل كان» على حد سلسلة بيانات الخارجية السورية.
لكن ما رافقَ العملية الأخيرة في ادلب انعكسَ تطوّراً لافتاً في الموقف السوري توصّلاً الى نفيِ الأسباب الموجبة التي برّرت من خلالها انقرة تدخّلَها الأخير. فاعتبَرت أنّ «العدوان التركي لا علاقة له بالتفاهمات التي تمّت بين الدول الضامنة في عملية أستانا» لا بل يشكّل «مخالفة لهذه التفاهمات وخروجاً عنها.. وعلى النظام التركي التقيّد بما تمّ الاتفاق عليه في أستانا».
وأمام هذا الخلاف في تفسير وثيقة «أستانا 6» ربَط المراقبون الديبلوماسيون بين الموقف السوري وبين رفضِ مندوب سوريا الى المؤتمر رئيس بعثتِها لدى الأمم المتحدة السفير بشّار الجعفري لبعض نقاط الإتفاق، لكنّ ذلك لا يمسّ اهمّية الاتفاق الذي أبرِم بين انقرة وموسكو وطهران. فهو اتّفاق مبرَم لم يأخذ بملاحظات لا وفد النظام السوري ولا فريق المعارضة الذي كان يرفض تكريسَ ايّ دورٍ لطهران في أيّ بقعة سورية.
وعندها سيكون من الطبيعي ان تسيطر وجهة نظر الأتراك وهي ستَسمح لهم بعدم الأخذِ بالموقف السوري أيّاً كانت لهجتُه وشكلُه ومضمونه، فالتفاهم معه رُعاته وحماته أقوى وأمضى من التحفّظ السوري أيّاً كان مستواه.
وعليه، وتأكيداً لهذا الموقف، لم تعِر موسكو او طهران الموقفَ السوري ايَّ أهمّية كما فعلا قبلاً. فالمراجع الديبلوماسية الروسية سبقَ لها ان دانَت التوغّل التركي وخصوصاً في عملية «درع الفرات»، وأصدرَت الخارجية الروسية يومها بياناً شديد اللجهة دانت فيه توغّلَ القوات التركية والتشكيلات المسلّحة من المعارضة السورية المدعومة منها، إلى عمق الأراضي السورية لأنها تجري «بلا اتفاق مع السلطات السورية الرسمية وبلا موافقة مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة».
وقالت إنّها «تهدّد سيادة أراضي الجمهورية العربية السورية ووحدتَها». واكتفَت القيادة التركية يومها بتأكيد رفضِ صفةِ الإحتلال لهذه القوات لأنّها «تساند «الجيش السوري الحر» الذي يمثّل الجناح المعتدل للمعارضة السورية»، ورسَمت تركيا يومها ثلاثة خطوط حمر، وهي «حماية الحدود الجنوبية لتركيا من الأنشطة الإرهابية والهجمات التي تستهدف أراضيَها»، والحيلولة «دون تشكيل تنظيم إرهابي تشكّل الذراع السورية لمنظمة (PKK) حزاماً له على طول الحدود الشمالية لسوريا» وحماية «وحدة أراضيها، وانسحاب عناصر قوات سوريا الديمقراطية («قسد») إلى شرق نهر الفرات.
وينتهي المراقبون الى القول انّه طالما غابت المواقف الإيرانية والروسية الرافضة والمدينة للعملية التركية الجديدة فإنه لن يُحتسَب لدمشق موقفها الأخير وسيُضَمّ بيان خارجيتها الى لائحة بيانات الإدانة السابقة الى حين.
فالتفاهم الثلاثي قال إنّ العملية جاءت لتحمي» ثلاثة ملايين سوري جعلوا من إدلب موطنَهم الأمّ بعد مسلسل تهجير قسري». وقد تبنّت الفصائل التي ذهبَت الى «أستانا 6» هذا الطرح، وقبلت بالاتّفاق على أن لا يكون لإيران أيّ وجود ضمن المنطقة الخاضعة لسيطرة المعارضة، كذلك أثنَت الهيئة العليا للمفاوضات على الاتفاق باعتمادها على الضامن والشريك التركي.