كتب ابراهيم ناصرالدين في صحيفة “الديار”:
ثمة قرار مركزي لدى قيادة العمليات «المشتركة» لمحور المقاومة في استمرار استراتيجية «الهجوم» على مختلف جبهات القتال للاستفادة من حالة انعدام التوازن الاميركي في المنطقة، لكن لبنان يبقى «الجبهة» الوحيدة المستثناة بفعل قرار متخذ من قبل قيادة حزب الله بالحفاظ على التوازنات الداخلية الحالية طالما انها لم تؤثر في الماضي على استراتيجية المقاومة، ولن تؤثر في المستقبل، وطالما ان الفريق الاخر ملتزم بشروط «التسوية الرئاسية» والسياسية الضامنة للاستقرار في البلاد..
هذ الموقف ليس بجديد، لكن ما طرأ عليه في الاونة الاخيرة «شكوى» عارمة داخل تيار المستقبل من ما يعتبره التيار تجاوزا من قبل التيار الوطني الحر لهذه «المعادلة» عبر الالتفاف على التفاهمات بمحاولة فرض وقائع داخلية وخارجية، مع تلميحات ضمنية بوجود «ضوء اخضر» من الحزب «للتيار» بخوض هذه المعركة على ان يبقى هو في «الظل» ليستفيد لاحقا من النتائج المحققة…
اوساط وزارية بارزة، ابلغت من راجعها في هذا الملف ان حزب الله لا يتدخل مع حليفه «البرتقالي» في تفاصيل سياساته غير الخاضعة لمفاعيل التحالف، الخطوط العامة المتفق عليها ما تزال على حالها، بل زادت متانة في الملفات الاقليمية، اما تفاصيل الملفات الداخلية، فلا يدعي الحزب انه يملي على «التيار» ما عليه اتخاذه من قرارات، انها سياسة مستقلة لا يتحمل حزب الله وزرها او يتدخل فيها، وكل تداخلاته السابقة واللاحقة حصلت في لحظات مفصلية «لحلحلة» بعض الملفات عندما كانت البلاد على «مفترق طرق»، لا اكثر ولا اقل.. اما البعد الهجومي في استراتيجية حزب الله فانتهى بانتهاء المواجهات العسكرية مع المجموعات التكفيرية على الحدود الشمالية، ويبقى ملتزما بكل مفاعيل التسويات التي ادت الى التهدئة الداخلية، وليس بحاجة حتى الى تغيير خطابه السياسي مع اقتراب موعد الانتخابات…
في المقابل، لا تبدو استراتيجة «التيار الوطني الحر» منسقة مع استراتيجية الحليف في التعامل مع الملفات الداخلية، وهناك مراجعة قد حصلت وقرار واضح اتخذ «بتسييل» «الانتصارات» الى نتائج عملية، وبحسب اوساط محسوبة على «التيار» فان «الثابتة» الوحيدة حتى الان في سياسة قيادة «التيار»هي الحفاظ على التفاهم مع حزب الله، وتعميقه لانه التحالف الاوثق الذي لم يدفع من خلاله التيار الوطني الحر اي اثمان، على الرغم من كثرة التهويل الداخلي والخارجي، بل على العكس من ذلك حصل «البرتقالي» على «رافعة» داخلية واقليمية سبق ومنحته «الفيتو» على الكثير من القضايا الاساسية في البلاد، ونجح من خلالها من ايصال رئيسه الى سدة الرئاسة، وعلى الرغم من وجود بعض الملاحظات على اداء وزير الخارجية في الكثير من الملفات الداخلية، لكن تبقى الملفات الخارجية هي الاساس بالنسبة الى حزب الله الذي يعطي باسيل حتى الان العلامة الكاملة في هذا الملف…وهذا الجزء الاهم في نجاح العلاقة..اما العلاقة مع الاخرين فهي تخضع الان لمراجعة كاملة في ضوء تسارع التطورات في الداخل والخارج ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية.
اما لماذا يشعر رئيس التيار الحر «بفائض» من القوة ويحاول ترجمته في علاقته مع اقرانه في الداخل؟ فالاسباب كثيرة برأي تلك الاوساط، يبقى اهمها انتصار رهانه السياسي على نجاح مشروع محور المقاومة في المنطقة على الرغم من عدم انخراطه الكامل والصريح فيه، وهو لذلك اختار اللحظة السياسية المناسبة للانفتاح على النظام السوري عبر لقائه نظيره السوري وليد المعلم في نيويورك، وهو يسير بخطوات ثابتة نحو تعميق العلاقات مع دمشق ولكن على «جرعات» «مدوزنة» وذلك لتسهيل «هضمها» لدى الفريق الاخر..
وتفيد تلك الاوساط الى ان الوزير باسيل سمع من الاوروبيين ما يدعم قراءته السياسية ، فهو سمع من نظرائه «نصائح» سبق وقدموها الى قيادات سياسية رسمية وغير رسمية في فريق14آذار، دعوهم فيها الى عدم الثقة بالادارة الاميركية ووعود الرئيس «الصدفة» دونالد ترامب الذي يعيش حالة من التخبط، ويخوض معارك وهمية في الخارج لمواجهة الفوضى السائدة داخل البيت الابيض، وقد جاءت الاحداث لتؤكد صوابية الكلام الاوروبي، وآخرها ما حصل في كركوك، وفي الملف النووي الايراني…
وتلفت تلك الاوساط، الى ان ما حصل في العراق خلال الايام القليلة الماضية يعتبر اسوأ «نكسة» للاميركيين في المنطقة باعتبار ان الحرس الثوري الايراني بقيادة الجنرال قاسم سليماني نجح في «اجهاض» الخطط الاميركية- الاسرائيلية في العراق، وانهى «مؤامرة» التقسيم بعملية «نظيفة» دون الغرق بمستنقع مواجهة عرقية او مذهبية في منطقة شديدة الحساسية والخطورة، لكن الجديد هذه المرة ان «المشروع» اسقط «بسلاح» اميركي استخدمه الجيش العراقي دون التوقف عند الاعتراضات الاميركية، وهذا تطور نوعي غير مسبوق في العراق، ويدل على تحولات ستكون دراماتيكية في مرحلة ما بعد «داعش» حيث بات تراجع النفوذ الاميركي حتمياً امام «المد» الايراني.. وقد كشفت الاحداث ان الجنرال سليماني نجح ايضا في الاستثمار بالاكراد، فيما كان يعتقد الاميركيون ان يدهم هناك هي «الاعلى»…
وفي هذا السياق، تشير معلومات الاوروبيين ان مراجعة اميركية «عاجلة» قد بدأت للاستراتيجية في سوريا، خصوصا ان «قوات سوريا الديموقراطية» لا تملك المزايا الموجودة لدى اكراد كردستان، «والرسالة» الايرانية القاسية في العراق، واضحة لجهة عدم القبول باي خروج كردي في سوريا عن «النص»، ولن تتوان طهران وحلفاؤها من الاقدام على كل ما هو مطلوب لمنع اجهاض الانتصار الميداني الذي تحقق، ولن تمنح واشنطن في سوريا اي انتصار سياسي عبر استغلال «ورقة» الكرد..
هذه الانتكاسة جاءت بعد ايام قليلة على انكشاف عقم استراتيجية ترامب حيال الملف النووي الايراني، «فالعاصفة» التي وعد بها تبين انها «زوبعة في فنجان» فهو لم يمزق الاتفاق النووي كما كان قد وعد خلال دعاياته الانتخابية كمرشح للرئاسة، «رمى الكرة» في «ملعب الكونغرس لكنه لم يطلب منه أن يعيد العقوبات المفروضة لأن ذلك كان يساوي إلغاء الاتفاق النووي، وهو ما تبين ان ترامب غير قادر على تحمل نتائجه… اما «الوعيد» «والتهديد» باعلان الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، فانتهى بإعلان الرئيس الأميركي عقوبات محددة تستهدفه… وبرر وزير الخارجية الاميركية ريكس تيلرسون الامر بالقول ان هناك «مخاطر وتعقيدات ترتبط بتصنيف جيش كامل لبلد ما» على أنه منظمة إرهابية. اما الرهان على تحوّل في الموقف الأوروبي واحتمال تراجع بريطانيا وألمانيا وحتى فرنسا عن مواقفها السابقة للفصل بين الاتفاق وسلوك طهران في المنطقة، فدونه عقبات كثيرة اهمها المصالح الاقتصادية، وحاجة الاوروبيين الى الاسواق الايرانية، فيما تلعب شخصية الرئيس الاميركي دورا كبيرا في انعدام الثقة بين الطرفي، ما يمنح طهران فرصة كبيرة «للعب» على التناقضات والاستفادة منها..
خلاصة ما تقدم، ان طهران ومعها الحلفاء ليسوا في وارد تقديم التنازلات في ملفات المنطقة المشتعلة، «الهوامش» الاميركية تضيق، وفرصة واشنطن للتعويض صعبة، ولا يملك السعوديون اي «اوراق قوة»، واستدعاء المسؤولين اللبنانيين الى الرياض «لزوم ما لا يلزم» نظراً للتحول في طبيعة الصراع على الارض.. هذا ما يعرفه الوزير باسيل جيدا ولن يتوانى عن استغلاله في المرحلة المقبلة من خلال اصلاح الاختلال في طبيعة بعض التفاهمات، وفي اطار العلاقة مع الرئاسة الثالثة لن يسمح باي اضعاف لموقع الرئاسة الاولى، اما مع القوات اللبنانية فهي لن تحصل على «المناصفة» في «الحصص» مع التيار الوطني الحر، وعليها التواضع والقبول بما يتناسب مع حجمها «الطبيعي»..