كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
على صورة ما انتهى إليه قانون الانتخاب في حزيران، كان التصويت على قانون الموازنة. تجاوزت التسوية الرئاسية مَن اقترع قبل سنة مع انتخاب الرئيس ميشال عون ومَن اقترع ضده، إلى ما بات هو الأهم في معادلة الداخل: إدارة جماعية للنظام والحكم
لم يساور أحداً عاقلاً الوهمُ، قبل سنة تقريباً من اليوم، حينما انتخب الرئيس ميشال عون على رأس الدولة، أن مؤيديه والدائرين في فلكهم سيحكمون وحدهم، ومعارضيه سيُبعدون أو يُقصون تماماً. أتى تأليف حكومة الرئيس سعد الحريري كي ينقض نتائج اقتراع 31 تشرين الأول 2016، ويقول إن صفحة جديدة فتحت هي انضمام الأفرقاء جميعاً الى السلطة، إلا مَن اختار أن يبقى خارجها.
كانت العين أولاً على رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي كان في المقلب الآخر من ذلك الاقتراع، بل ضده، إلا أنه لم يقاطع جلسة الانتخاب بل ترأّسها وأعلن نتيجتها. فإذا هو أول المفاوضين وأكثرهم تأثيراً في تأليف أولى حكومات العهد، فلم تبصر النور إلا بعد بتّ مصير حقيبة الأشغال العامة والنقل في عين التينة. كذلك الأمر بالنسبة الى النائب سليمان فرنجية، وقد رام البعض اللصيق بالرئيس إقصاءه عن الحكومة الأولى، فكاد يتسبب في تعطيل تأليفها. ومع أن رئيس الجمهورية قال في وقت لاحق إنها ليست حكومة العهد الأولى، اكتشف في ما بعد أنها كذلك. كان عليه كي يتيقّن من أنها كذلك أن يوافق ــ في أول امتحان مؤلم للعهد لم يكن يتوقعه ــ على ما رفضه قبل الرئاسة وغداتها، وهو تمديد ولاية البرلمان.
ما يعنيه هذا الدرس أن حسابات الترشيح والانتخاب تختلف عن حسابات الحكم.
على نحو كهذا، أمضى العهد سنته الأولى باختبار تلو آخر، بين رئيسي الجمهورية والمجلس، ورئيسي الجمهورية والحكومة، وفي مجلس الوزراء الذي لم يحتكم يوماً الى التصويت، ومع مجلس النواب. فإذا العهد، للمرة الأولى، هو هؤلاء جميعاً.
بعد إقرار قانون الانتخاب، جاء الاقتراع على الموازنة مطابقاً لمغزى الائتلاف الحاكم. قبل أربعة أشهر، تغطى تمديد ولاية البرلمان 11 شهراً بذريعة أن الأولوية هي لوضع قانون جديد للانتخاب، وإن حتّم الوصول إليه ــ تحت وطأة عامل الوقت والخشية من الفوضى والفراغ ــ إقرار إجراء مخالف للقانون برره ما عُزي الى المصلحة الوطنية العليا. هي الحجة نفسها رافقت التصويت على موازنة 2017: الحاجة الملحة الى استعادة الانتظام المالي ومراقبة إنفاق الحكومة بالاقتراع على أول موازنة عامة منذ عام 2005، وإن اقتضى تبرير المخالفة الدستورية: صرف النظر عن إقرار قطع الحساب عبر تعليق غير مباشر للمادة 87 من الدستور.
في استحقاقَي قانوني الانتخاب والموازنة، سلّم المسؤولون ورؤساء الأحزاب والتيارات والسياسيون بإعادة ترتيب الأولويات، وهم يقرّون بالمخالفة القانونية تارة والدستورية طوراً، من غير أن يكون في وسع أحد أن يجزم، حقاً، بأن المخالفة هذه ستكون لمرة أخيرة، سواء في تمديد الولاية أو في تجاهل قطع الحساب. بل من غير أن يقدّم أحد تطميناً ــ الآن كما من قبل ــ الى أن التمديد الثالث كان الأخير وتجميد المادة 87 هو الإهمال الأخير لقطع الحساب الذي يمثل الاختصاص الفعلي للبرلمان في رقابته على الحكومة ومساءلتها.
بعدما اعتاد اللبنانيون في عقدين ونصف عقد من الزمن تعليق المادة 49 من الدستور لانتخاب رئيس الجمهورية أعوام 1995 و1998 و2004، وصولاً الى 2008 الذي لا يسع أحداً ــ ولا الدستور نفسه ــ تفسير حدوثه في طريقة انتخاب الرئيس حينذاك، ها هو تعليق المواد الدستورية ــ وليس واحدة فحسب ــ يتحوّل الى تقليد يسهل هضمه. في سنة واحدة من العهد الحالي، عُلقت على التوالي ثلاث مواد دستورية من أجل البحث عن حلول سياسية تخرج على الإلزام الدستوري:
ـ المرة الأولى في تعليق المادة 42 بعدم إجراء الانتخابات النيابية العامة هذه السنة بعد تمديدَي 2013 و2014، تارة بحجة رفض قانون الانتخاب النافذ، وطوراً بحجة عدم وجود قانون جديد للانتخاب. مهّد لهما رفض رئيس الجمهورية في شباط الفائت برفضه توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة. وسواء أقنعت حجة الرئيس حلفاءه أو لم تقنع خصومه، كلتا الذريعتين غير مبررتين: يطبّق القانون الى أن يؤتى بسواه، وتالياً ليس ثمة رابط بين الخلاف على قانون الانتخاب وبين إجراء الانتخابات كاستحقاق مستقل في ذاته دوري وملزم. قاد تعليق المادة 42 الى تمديد ثالث للولاية للمجلس، وإن في ظل قانون جديد للانتخاب بغية تخفيف وطأة المخالفة القانونية. اليوم، بعد أشهر على التصويت على القانون، ثمة مَن بدأ يقول إنه في حاجة الى إعادة نظر كما لو أنه يتنصل منه.
2 ـ المرة الثانية في تعليق المادة 41 وتعطيل انتخاب فرعي على ثلاثة مقاعد شاغرة في طرابلس وكسروان. رغم أن المادة الدستورية ملزمة، ولا تمنح أحداً في الحكم خيار المفاضلة بين إجراء الانتخاب الفرعي وعدم إجرائه بذريعة دوافع سياسية تارة، وانتخابية طوراً، لم يسارع أحد بين المعنيين ــ بمن فيهم المرجعان الرسميان المعنيان مباشرة ــ الى تبرير تجاهل هذا الإلزام الدستوري كأنه لم يكن، والمدة الفاصلة بين المهلة القصوى للانتخاب الفرعي وموعد الانتخابات العامة ثمانية أشهر على الأقل. لأن أولئك متوجسون ربما من نتائجها المحتملة، صُرف النظر عنها.
3 ـ المرة الثالثة في تعليق ضمني للمادة 87 من خلال تأجيل قطع حساب 2015 في قانون الموازنة على نحو ما أقره البرلمان الخميس. لم يشأ أحد إنكار المخالفة الدستورية، إلا أن الجميع تقريباً التقوا على تبرير مخرج سياسي لمأزق دستوري هو أن التصويت على قطع الحساب ــ غير المتوافر ــ يسبق الخوض في مشروع الموازنة. مع ذلك، نُظر الى التصويت على الموازنة على أنه إنجاز في ذاته.
ليست مصادفة أن تعليق المواد الدستورية الثلاث انبثق من عجز حكومة الحريري عن استجابة تطبيقها الملزم: تركت قانون الانتخاب بين أيدي وزرائها، لكن خارج مجلس الوزراء، وأشاحت بوجهها عن الانتخاب الفرعي، وتعثر إنجازها قطع الحساب بالتزامن مع الوصول الى موازنة متأخرة سنة تقريباً وقد أنفقتها سلفاً.
ليس مصادفة أيضاً، تحت وطأة الائتلاف الحاكم في مرحلة ما بعد انتخاب عون، رغم الخلاف على الرجل وسابقة غير مألوفة ــ إن لم تكن مسيئة ــ هي الاقتراع له في أربع دورات على التوالي، أن مجلس النواب هو مَن ينجد الحكومة في آخر المطاف.