كتبت سابين الحاج في صحيفة “الجمهورية”:
الكذب يُجلِّب الكذب، و»حبل الكذب قصير». يكذب الإنسان ليحميَ نفسَه أحياناً، وذلك خوفاً من الآخرين وحكمهم ونظرتهم وربما خشيةً من عقابهم. ويكذب ليرسم عن نفسه صوراً غير واقعية أو ليضمن سَيرَ الأمور بما يناسب مصالحه. ولكنّ اختراعَ كذبة غالباً ما يستوجب اختراعَ أخرى تُكمِّل الأولى أو تفسّرها أو تصونها كي لا تنفضح. ويؤكد العلماء أنه كلما مضى الإنسان في الكذب قدماً، كلما اعتاد عليه وباتت نفسُه تقبله، وصار يُتقنه ودخل في دوامة لا متناهية من الكذب وحتّى الافتراء.
أجرى علماء الأعصاب في جامعة لندن تجربةً علمية دفعوا من خلالها الناس إلى الكذب بشكل مستمر، وتلقّى هؤلاء الكاذبون مكافأةً مالية على كذبهم المتكرّر.
أثبتت هذه التجربة أنّ «السلوك غير النزيه يتصاعد ويقوى إذا ما كرّره الإنسان». «في المرة الأولى التي تكذب فيها بشأن مُستحقاتك الضريبية، قد تشعر بعدم ارتياح لكنّ المرة الثانية تكون أسهل عليك، ويتضاءل الأثرُ السيّئ على نفسك، فلا يردعك عن الكذب»، بحسب تالي شاروت وهو أحد الباحثين المُشرفين على الدراسة.
وأوضح البحث أنّ «الناس يكذبون أكثر حين يعود ذلك عليهم وعلى الآخرين بالنفع. أما حين تنحصر الفائدة بهم، ويصيب الضرر شخصاً آخر، فإنّ إقبالَهم على الكذب يتناقص».
لماذا نكذب؟
أسبابٌ كثيرة تدفع الإنسان إلى الكذب أبرزها، نقص الثقة بالنفس. اعتادت هبى (25 عاماً) على الكذب منذ صغرها. في المدرسة، كانت تُخبر أصدقاءها أنّ والدها يملك قصراً ويعمل خارج لبنان. أما الحقيقة، فإنّ أباها موظف في شركة وتمكث عائلتها في شقة متواضعة. هبى من الأشخاص الذين يكذبون بهدف لفت انتباه الناس والتأثير بهم وجذبهم.
في المقابل، يكذب غيرها لإستجلاب الشفقة مثلاً، وذلك أيضاً بهدف إثارة اهتمام الآخرين.
من جهته، يقصّ فريد على مسامع زملائه في العمل مغامرات عاطفية مع عشرات النساء الجميلات ومنها خلال أسفار قام بها إلى الخارج. ولكن، غالبية هذه القصص ثمرة مخيّلته الواسعة.
هو يتمتّع باندهاش الآخرين بشخصه، إذ يحتاج إلى شحن «الأنا» إلى حدّ الإدمان على الكذب. يعاني هؤلاء الكاذبون من سوء تقدير الذات، فيغلّفون حياتهم بقشرة وهمية تغطي حقيقتهم وتخفي عدم تقديرهم لأنفسهم. وهم متأكدون أنهم لو تفوّهوا بالحقيقة لما أحبهم الآخرون على طبيعتهم.
التحكّم بالآخرين
لا يجد الكاذب بالكذب وسيلة لإثارة الاهتمام وشحن الثقة بالنفس فقط بل أيضاً سبيلاً للتحكّم بالغير. يعشق سامر (35 عاماً) الكذب، لأنه سبيله الوحيد ليدير الناس على هواه. يرمي كذبة من هنا وأخرى من هناك ويشعر بذلك أنه ممسكٌ ٌبزمام الأمور.
في العمل يوهم مديرَه بما يريد حسب لعبة مصالحه، كما يُجبر مرؤوسيه على تنفيذ قرارات يؤكّد أنها صادرة عن المدير بينما تكون فقط من نسج خياله وكذبه والهدف منها إخضاعهم والتحكّم بهم، وإدارة قرارات المدير والزملاء من حيث لا يدرون.
فالكذب يسري في عروقه. يقدم له الكذب لذة السيطرة واستغلال الآخر والتحكّم به. برأيه، مَن يكذب يسيطر على الآخرين بأكاذيبه يخطفهم بأقاصيصه ويجعلهم يصدّقون ما يريده هو، و»بفكّر حالو عنتر». ويصبح الكذب متعةً عندما يتخطّى الإنسان الشعور بالذنب لدى الكذب.
الكذب للضرورة
في المقابل، حال غنوة (20 عاماً) مع الكذب لا يشبه حال أشخاص آخرين فهي لا تتمتّع بكذبها أبداً. تكذب غنوة لأن أهلها متشدّدون جداً ولا يسمحون لها بالخروج مع الأصدقاء أسوة بباقي أبناء جيلها. كي تتخلّص من سطوتهم على حياتها لا تجد مفرّاً إلّا من خلال الكذب، ولكنّ هذا الكذبَ الدائم عليهم لأتفه الأسباب يوترها، وهي تعيش بخوف مستمر من أن ينفضح أمرُها.
كيف نصبح كذّابين؟
قد يرث الكاذب الكذب عن أهله، ويتعلمه منهم منذ الصغر، إذ إنّ بعض الأهل يكذبون على الآخرين أمام أولادهم ويتطوّر الأمر حدَّ جعل الصغار شركاء في كذبهم. كما يكذب بعض الأهالي على أولادهم فيعدونهم بما هم غير مستعدين لتنفيذه، كما لا يتردّد بعضهم بتعليم أطفالهم الكذب منذ الصغر.
وتستوطن آفة الكذب بالإنسان إلى حدّ إصابته بالجنون، عندما يتوصّل إلى تصديق كذبه. فيكذب الكذبة ويكون أوّل المؤمنين بصحّتها! هو يشعر بالقوة ولا يدرك حتّى أنه أسير حياة وهمية رسمها بأحلامه وأوهامه وقلقه وهي لا تمتّ إلى الواقع بصلة.
«حبل الكذب قصير»
غالباً ما ينفضح الكاذب بسرعة. فربما قول كذبة عابرة قد يخلصنا من موقف مُحرج إذا ما انتبهنا جيداً إلى عدم فضح أنفسنا. أمّا اختراع سلسة من الأكاذيب والعيش لتذكّر كل كذبة تفوّهنا بها، حتّى لا نُقدّم معلومات متضاربة في المرة المقبلة فأمر خطير يهدّد ممارسه بالفضيحة في أيّ وقت، ويعيش حياته خائفاً من نظرات الآخرين وأحكامهم.
كيف يتوقّف الكذب؟
تؤكّد الطبيبة النفسية الفرنسية ماري فرانس سير أهمية أن يتأكّد الأهل والمربّون من أنهم ليسوا وراء كذب أولادهم من خلال الضغط الشديد عليهم، وعدم ترك المخارج لهم سوى عن طريق الكذب. يُذكر أنّ التخلّص من الكذب المتجذّر في شخصية الإنسان ليس سهلاً. ويمرّ الخروج من دائرة الكذب المفرغة، بتجرّؤ الكاذب على إخبار الحقيقة لأحد المقرّبين. هو بذلك يبدأ بكسر الهالة الزائفة التي بناها حول نفسه.
كما أنّ وقف الكذب يحتّم العمل على الذات لتقبّل «الأنا» والواقع، خصوصاً أنّ الهربَ من الحقيقة لن يغيّر مجريات الأمور. ومن المهم أن يعي الكاذب ما الذي دفعه إلى الكذب المفرط.