Site icon IMLebanon

تقرير IMLebanon: دور الرهبنة المارونية بين الأمس واليوم!

 

 

تقرير رولان خاطر

خفت الحديث في عصرنا الحالي عن القضية اللبنانية التي كان يحمل لواءها المسيحيون، علماً أن هذه القضية على الرغم من كل النضالات والتضحيات التي سقتها لم تصل إلى تحقيق ذاتها في الكيان اللبناني.

وفي تصفّح لصفحات كتاب تاريخ لبنان القريب والبعيد، نرى أنّ احياء روح القضية على مدى عقود وحماية الكيان وصون الوجود السياسي والمادي والمعنوي للمسيحيين، الذين كانوا الاساس بتكوين لبنان، وما تستتبعهم من فلسفة وجودية ثقافياً وعقائدياً وحتى عسكرياً، كان الفضل الاهم فيها للكنيسة والرهبان الذين كانوا ركيزة انطلاق العمل المقاوم للدفاع عن القضية اللبنانية.

 

 

لطالما تفاعلت الكنيسة وخصوصا الرهبنة مع القلق على المصير الذي كان يعتري المسيحيين واللبنانيين. فلعبت أدوارا وطنية مهمة انطلاقا مما يمليه عليها تراثها الماروني والرهباني.

فعلى سبيل المثال، كان الرهبان إبّان الحرب العالمية الأولى ملجأ الجياع والفقراء والمحتاجين فرهنوا أراضي الرهبانية لاطعام الجياع. هذا يعني أنه بطريقة أخرى، وللحفاظ على الوجود المسيحي وعدم جرّ الشباب إلى الاستسلام، أمنّ الرهبان لأهلهم جزءا من مقومات الصمود لابعاد عوامل الخضوع والاستسلام والتشبث أكثر في مواجهة محاولات القضاء عليهم.

واجهت الكنيسة الحكم العثماني بوسائل عدة فرضت عليها. وتؤكد مراجع كهنوتية ومذكرات العديد من المفكرين والكتبة والرهبان، أنه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تصدّى رهبان دير “مار أنطونيوس – قزحيا” للعسكر العثماني. فواجهوهم ومنعوهم من دخول الدير.

وغني عن الذكر كيف كانت الكنيسة أساس استقلال لبنان. فآنذلك، لمع اسم البطريرك الياس الحويك الذي حمل لواء الاستقلال والحريّة، كاسباً ثقة جميع اللبنانيين الذين فوضوه ليتوجه باسمهم إلى مؤتمر الصلح الذي عقد في قصر فرساي الباريسي سنة 1919 للمطالبة باستقلال لبنان. فغادر البطريرك إلى قصر فرساي من ميناء جونيه ليعرض القضيّة اللبنانيّة، فنجح في مسعاه وعاد حاملاً بشائر الاستقلال ومحققاً طموحات اللبنانيين في اليوم الأول من أيلول سنة 1920، تاريخ إعلان دولة لبنان الكبير. فتشكلت عندها مساحة لبنان الحالية 10452 كلم2. إشارة إلى أنه في العام 2020 سيت الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير.

 

 

عام 1943، ومع وصول بشارة الخوري ورياض الى الصلح الى الحكم، كانت مهمتهما تثبيت ما كرسّه البطريرك الحويك، فثبتوا الاستقلال.

كذلك، شكلت أديار الرهبنة محطة مهمة في سبيل مقاومة الحروب والفتوحات ومحاولات إلغاء الوجود المسيحي.

ففي العام 1969 مثلا، بعدما كان التمادي الفلسطيني تعدى حدود القانون والدولة وضرب التوازنات، بدأت الكنيسة تستشعر الخطر على الوجود المسيحي. فباشرت الرهبانيات بشكل عفوي ومن دون تنظيم مسبق استقبال الخائفين على الوجود وعلى القضية في قاعاتها، وبدأت تجري مقاربات جدية للواقع الجديد الذي يواجهه لبنان.

 

 

اثر الاشتباكات التي وقعت بين الجيش اللبناني والفلسطينيين عام 1969، وبعد وقوع الأزمة الوزارية بين الرئيس شارل حلو ورئيس الحكومة آنذاك رشيد كرامي الذي استقال رابطا العودة الى الحكومة بتحقيق توافق على وضع المقاومة الفلسيطينية وحرية العمل الفدائي في لبنان، وتوقيع اتفاق القاهرة لاحقاً، بدأ الشباب المسيحي ينخرط في مجموعات وتنظيمات لمنع ان يكون لبنان البلد البديل للفلسطينيين.

احتضنت الرهبانية الشباب المسيحي، فرافق عدد من الرهبان مسيرتهم نحو التدرب على كيفية الدفاع عن النفس واستعمال السلاح، وحتى تأمين السلاح في أحيان كثيرة.

 

 

في موازاة التدريب، عملت الرهبانية على تنظيم المحاضرات وإعداد الكوادر الفكرية في صفوف الشباب وإنتاج مجموعة مثقفين ومفكرين لمساندة القضية اللبنانية. فنظمت الخلوات وبدأت عملية الاعداد الفكري.

ومعلوم أن الطائفة المارونية وصفت بالمبدعة، ففكريا، برز فيها كبار المفكرين من آل شدياق ويازجي، وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وغيرهم. كما لعبوا دورهم في تكريس القومية العربية والدفاع عن اللغة العربية، ومنعها من الاندثار أيام محاولة الدولة العثمانية، ولعب البطريرك اسطفان الدويهي دوره الكبير في هذا المجال.

لا يمكن التطرق لكل المحطات والوقائع التي كان للرهبنة اللبنانية المارونية دور مهم فيها، ولكن باختصار كانت مدماك اي عمل مقاوم في لبنان، فكريا، اجتماعيا، اقتصاديا، وعسكرياً.

في الحرب اللبنانية التي انطلقت في العام 1975 وصولا الى حرب الجبل، كان مقر “سيدة البير” محج القادة اللبنانيين والجبهة اللبنانية ومطبخاً للاتفاقيات والحلول السلمية. في حرب الجبل كان للكنائس والرعايا والأديرة دور في احتضان المواطنين، كما كان لها نصيب من الانتهاكات والقصف الذي طاولها.

وفي حربي “التحرير” و”الالغاء”، لجان كثيرة عملت على التهدئة وتعميم لغة السلام والحوار، ومعظم هذه اللجان من “الرهبان”.

 

 

ومع انتهاء الحرب، بدأ لبنان يتحضر لدخول الجمهورية الثانية، فباركت بكركي “وثيقة الوفاق الوطني” التي عُرفت بـ”اتفاق الطائف”.

منظمو ومعدّو وبعض أركان “الطائف” انقلبوا عليه، فجاء تطبيقه مشوّها وانعكس سلبا على المسيحيين. فنفي العماد ميشال عون، وسجنت “القوات اللبنانية” التي كانت تشكل المقاومة المسيحية الوحيدة في لبنان والشرق، عبر سجن قائدها سمير جعجع في أقبية وزارة الدفاع التي كانت تخضع لوصاية الجهاز الأمني اللبناني – السوري.

في هذه المرحلة، انتقلت القيادة إلى بكركي، وتسلّم البطريرك مار نصرالله بطرس صفير دفة قيادة المسيحيين، دينياً وسياسياً ائتماناً منه على دور وإرث بكركي الوطني. شكلت الكنيسة من جديد “المنقذ” واداة لمواجهة الاحتلال السوري ومنظومته الأمنية التي قتلت واغتالت وسجنت اللبنانيين، من مسيحيين ومسلمين.

 

 

وفي العام 2000 انتفضت بكركي، مطلقة نداء المطارنة الشهير الذي دعا الى انسحاب الجيش السوري من لبنان ورفض منطق الخضوع.

كرست بكركي المصالحة في الجبل بين المسيحيين والدروز، وضمّد البطريرك صفير الجرح الذي كان ينزف منذ سنين طويلة.

حركة مقاومة سلمية نشأت في تلك الفترة من العام 1994 حتى الـ2005 موعد انسحاب الجيش السوري من لبنان. فكانت معظم الاجتماعات واللقاءات تجري في بعض الأديرة التي فتحت أبوابها للشباب المسيحي المقاوم ورفضا للظلم.

ومع سقوط المنظومة الأمنية اللبنانية السورية في الـ2005 عادت الحياة السياسية إلى الأحزاب والجماعات السياسية، وعادت المشاحنات.

 

 

هذا السرد التاريخي يأتي بالتزامن مع انعقاد “مؤتمر الدفاع عن المسيحيين في الشرق الأوسط” في الولايات المتحدة للسنة الرابعة، والذي بات معلوماً أنه يتناول الوجود المسيحي في الشرق بكل جوانبه والخطر المحدق به.

كما يُظهر بوضوح الدور المناط بالرهبنة وبالمسؤولية الملقاة على الكنيسة في سبيل حماية النظام الاجتماعي والسياسي في لبنان.

من هنا، فإن المرحلة التي يمر بها المسيحيون بحسب العديد من المراقبين، لا تقل خطورة عما مروا به في السنوات والعقود الماضية.

 

 

لذلك بات ضرورة على الكنيسة ان تثور وان تواكب ما يحصل في الخارج بمؤتمر لا بل بمؤتمرات في الداخل تناقش الهواجس والأخطار وترسم الاستراتيجيات لمواجهتها، والأهم ان لا تكتفي بوضع شرعات للعمل السياسي من دون وضع الآليات لتنفيذ هذه الشرعات السياسية.

فالمطلوب استنهاض الحالة المسيحية اجتماعياً واقتصادياً من قبل الكنيسة في ظل الغياب القسري للدولة اللبنانية، وذلك لافساح المجال امام الشباب والمواطنين الانصراف قليلا إلى العمل الوطني والسياسي.

المطلوب عمل سياسي كبير ينتج طبقة سياسية تحارب من اجل الحفاظ على التوازنات في الدولة، فلا يتم تنازل هنا وتبادل هناك من اجل مصالح شخصية.

العمل على الاستفادة من المثقفين والمفكرين من المجتمع المدني والذين هم كثر و”صامتون”، من اجل البدء بعملية اعداد فكري في كل المناطق والرعايا والمدارس والجامعات والمؤسسات، واعادة تعميم جوهر القضية اللبنانية التي تتهددها اليوم عقائد وايديولوجيات طارئة على المجتمع اللبناني.

واجهت الكنيسة الحكم العثماني، رفضت السطوة الفرنسية على القرار اللبناني، قاومت الاحتلال السوري، وها نحن امام وصاية جديدة تطل برأسها على لبنان من عاصمة “الأئمة”، لذلك على الكنيسة اليوم، والكنيسة أكثر من غيرها، مسؤولية كبيرة في مواجهتها وخصوصا على الصعيد الثقافي والفكري حفاظا على الهوية اللبنانية.

فأي اجتماعات ولقاءات في الخارج مهما كانت ايجابية وضرورية ومدعومة فهي لن تغير بالواقع الداخلي شيئا اذا لم تواكبها لقاءات وتحركات من الداخل.

فلماذا هذا العقم في الجسم الكهنوتي؟ لماذا لا تنتج الرهبانية أمثال جناديوس سركيس واغناطيوس داغر ويوسف مونّس وبطرس قزي وبولس نعمان والبطريرك صفير وغيرهم…

وختاما يقول الأباتي بولس نعمان في مذكراته: “لا شك أن رسالة الرهبان ان يكونوا متمسكين بنذورهم وبمتطلبات الحياة الديرية، وبتعاليم السيد المسيح القائمة على محبة الله والقريب وبذل الذات في سبيل الضعفاء والمهمشين، لكن فوق ذلك، يجب أن يعلموا انهم “رهبان لبنانيون موارنة”.

وهذا يعني، أن على عاتق “الرهبان” مسؤولية اضافية في رسم طرق الحفاظ على الوجود المسيحي.