كتب محمد وهبة في “الأخبار”:
في بداية عهده، تلقّى رئيس الجمهورية، ميشال عون، “وصفة” من البنك الدولي للمئة يوم الأولى من ولايته. هذه “الوصفة” تتحدث عن مخاطر نقدية واقتصادية كبيرة في حال تعرّض “الثقة” لضربة كبيرة، وتقترح ترتيباً زمنياً للأولويات المتصلة بحلقة الدين العام وتقليص العجز المالي وتخفيف المخاطر السيادية الغارقة فيها المصارف ومصرف لبنان
بعد فترة وجيزة على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، زاره وفد من البنك الدولي مقدماً له اقتراح “خطّة/ وصفة” الـ 100 يوم الأولى، تحت عنوان “أولوية الإصلاحات لحكومة لبنان”. حصلت “الأخبار” على نسخة من هذا الاقتراح (غير المنشور)، وهو يتضمن ترتيباً زمنياً للإصلاحات، التي يقترح البنك الدولي تنفيذها في بداية العهد، انطلاقاً من أولويات حددها البنك واعتبر أن تحقيقها ممكن في فترة زمنية قياسية، تمهيداً للانتقال إلى الإصلاحات التي يمكن تحقيقها على المدى المتوسط، محذراً من أن عدم تنفيذ هذه الإصلاحات يؤدي إلى سيناريو خطير، بسبب أي ضربة مفاجئة للثقة قد تؤدي إلى انهيار سريع في التدفقات الرأسمالية، ليصبح النظام غير قادر على تلبية حاجات لبنان المتزايدة ويجبر الحكومة على التوقف عن السداد.
مصدر الخطر، بحسب “وصفة البنك الدولي” يكمن في استمرار ارتفاع الدين العام وزيادة الإنفاق نتيجة لارتفاع خدمة الدين العام والتحويلات المتزايدة من الخزينة إلى كهرباء لبنان، في ظل الأثر الناتج من ارتفاع أسعار الفائدة العالمية وانخفاض أسعار النفط. الزاوية التي ينظر منها البنك مبنية على فهمه للاقتصاد اللبناني الذي يرزح تحت عبء الدين العام والعجز في الحساب الجاري، اللذين يتركان لبنان مكشوفاً على مخاطر تمويلية ملحوظة. وبذلك، فإن توقعات البنك أن يكون مسار الدين العام أسوأ بشكل ملحوظ، رغم أن الدين مرتفع أصلاً نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي بسبب السياسات القائمة ومستويات النمو الاقتصادي الحالية.
يعتبر البنك الدولي أن “استقطاب رؤوس الأموال الكافية، وبشكل خاص الودائع، لتمويل عجز الموازنة والحساب الجاري، يخلق تحديات قياساً إلى معدلات نمو الودائع بعد ارتفاع أسعار الفائدة في أميركا والأثر الناجم عن انخفاض أسعار النفط في دول الخليج، بسبب علاقتها بتدفقات رؤوس الأموال الوافدة إلى لبنان”. وليس ذلك فحسب، فعلى الرغم من “تدخل مصرف لبنان القويّ، في إدارة التحديات المالية والاقتصادية، وحتى عندما نجح، فإنه لم يؤمن سوى تأجيل مؤقت وهو ليس بلا مخاطر اقتصادية ــ مالية إضافية. الهشاشة في الاقتصاد هي نتيجة انعدام توازن النموذج الاقتصادي الذي يعتمد بشكل أساسي على قطاعات محدّدة غير منتجة، وغير قابلة للتداول وهي لا تفيد إلا القلّة وفاشلة في تأمين وظائف وفرص عمل للشريحة الواسعة من الناس”.
بهذه الخلفية، يرى البنك الدولي أن “بناء الثقة” عملية ضرورية متصلة بواقع “المؤسسات (الرسمية) الضعيفة والموصوفة بانعدام الفاعلية والفساد”.
إذاً، الأمر يتعلق بالنموذج اللبناني. هذا النموذج وفق توصيف البنك الدولي، “يتميّز” بدين عام مرتفع، وعجز مالي كبير، ودولرة مرتفعة. ففي هذا الإطار، يتبيّن أن حاجات الدولة المالية مموّلة من القطاع المصرفي الذي توازي ميزانيته أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. لا يقدّم البنك الدولي هذه المعلومة على أنها مدعاة للفخر، بل هي مصدر للمخاطر، فهو يشير إلى أن مصرف لبنان “يضمن استمرار تدفق الودائع إلى القطاع المصرفي (من خلال الهامش بين أسعار الفائدة العالمية والفائدة المحلية)، لتأمين تمويل حاجات القطاعين العام والخاص (تمويل الدين العام وتسليف القطاع الخاص)، وبالتالي تمويل عجز الحساب الجاري الكبير. ولاستمرار استقطاب الودائع، فإن مصرف لبنان أصدر شهادات إيداع وآليات تمويل مدعومة. ولتأمين تمويل الحكومة، تحوّل مصرف لبنان إلى الشاري الأساسي للدين الحكومي في السوق الأولية والسوق الثانوية (شراء سندات الخزينة عند الاكتتاب ومن حامليها في السوق)، وبالتالي بات لدينا قطاع مصرفي بشقيه، المصارف ومصرف لبنان، ضمن حلقة المخاطر السيادية والأثر المضاعف على مخاطر النظام المالي ــ الاقتصادي”.
في ظل هذا الوضع، يرى البنك الدولي أن هناك سيناريو خطيراً محتملاً بسبب أي ضربة مفاجئة للثقة قد تؤدي إلى انهيار سريع في التدفقات الرأسمالية ليصبح النظام غير قادر على تلبية حاجات لبنان المتزايدة ويجبر الحكومة على التوقف عن السداد. “بالاستناد إلى الهشاشة الواسعة للبنان، سواء في القطاع المصرفي المنكشف على المخاطر السيادية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عبر مصرف لبنان، فإن هذا السيناريو سيخلق تموجات سريعة عبر الاقتصاد. أولاً: عبر الإفلاسات في القطاع المصرفي وانهيار سعر صرف الليرة، إذ إن كل المصارف لديها نموذج الأعمال نفسه الذي يعتمد على التوظيف في السندات السيادية. ثانياً، الدخول في كساد اقتصادي عميق وطويل المدى. الناس سيخسرون ودائعهم (لدى المصارف) بشكل جزئي، وسينكسر سعر صرف الليرة المثبت وتنهار النشاطات الاقتصادية. حلقة الدين السيادي يجب أن تكون محور التركيز على المدى المتوسط، وبشكل أدقّ يجب تقليص العجز المالي بشكل كاف”.
قبل كل ذلك، يشكّل إقرار الموازنة ضرورة للقرارات المتعلقة بالسياسة المالية، ولا سيما الضرائب والإنفاق العام، من أجل استعادة استقرار المالية العامة وتحسين النظام الضرائبي وتفعيل فاعلية الإنفاق، ولتكريس خيارات تنموية… “ورغم أنه قبل عام 2005 لم تكن هناك سياسة مالية متوسطة المدى، فإن المفاجئ غياب الرقابة والمساءلة الكافية بما فيها الرقابة على الصناديق خارج الموازنة مثل صندوق المهجرين ومجلس الإنماء والإعمار وكهرباء لبنان ومجلس الجنوب”.
الورقة المقدمة من البنك الدولي لرئيس الجمهورية ميشال عون في بداية ولايته، تشير إلى أن النموذج الاقتصادي اللبناني يعتمد بصورة أساسية على قطاعات غير منتجة وفاقمت العجز الخارجي (العجز في الميزان التجاري والمالي بين لبنان والخارج) من دون ان تولّد فرص العمل. يعرب البنك عن قلقه من المخاطر
الاقتصادية بسبب الاعتماد المفرط على التدفقات المالية، ويشير إلى أن قطاعَي الصناعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصال كانا مهملين لفترة طويلة، ولكن يمكن أن يشكّلاً مصدراً لخلق الوظائف للعمال المهرة. سيكون هذا الأمر خطوة نحو النمو المستدام بسبب طبيعة هذين القطاعين الأقل عرضة للصدمات الخارجية، مقارنة مع محفزات الاقتصاد اللبناني التقليدية في قطاع العقارات والسياحة.