IMLebanon

تفكيك حزب الله خيار استراتيجي لمواجهة المشروع الإيراني

كتب خلف علي الخلف في صحيفة “الوطن” السعودية:

لم تترك سرعة الأخبار الواردة من السعودية بخصوص المواجهة مع إيران فرصة للمحللين السياسيين للتأمل في خيوط هذه المواجهة وأدواتها واتجاهاتها، الشيء الأكثر وضوحاً؛ أن السعودية أكدت أنها حسمت أمرها بشكل نهائي لا رجعة فيه على المدى المنظور في مواجهة مفتوحة مع إيران ووكلائها الإقليميين، حتى الوصول إلى تسوية سياسية شاملة في المنطقة تعيد إيران إلى حجمها الطبيعي؛ دولة جارة مسالمة لا تتدخل في شؤون الجوار.

هناك حقائق يعرفها الجميع عن السياسة الخارجية الإيرانية بعد ثورة الخميني، فالنص الدستوري بأن إيران دولة شيعية، والذي بدا مسألة داخلية بحتة، أضاف عنصراً جديداً إلى الهوية السياسية لإيران، وشكل انزياحاً في هذه الهوية دون المساس بنواتها الفارسية الصلبة. لكن الوقائع أثبتت أن إضافة «الشيعية» كفاعل سياسي في علاقات إيران الإقليمية، كان الأكثر تأثيراً في تمدد إيران الخارجي ومحاولة بسط هيمنتها الإقليمية. فمنذ بداية الثمانينات وخلال الحرب مع العراق، ركزت الاستراتيجية الإيرانية على مسألة أساسية، هي تجنيد الشيعة العرب لصالح مشروعها الفارسي المتدثر بالغطاء الإسلامي الشيعي، وبناء مؤسسات وكيلة تحظى بالقبول الاجتماعي، ولا يعوزها التبرير السياسي وحتى الأخلاقي لخلق المشروعية.

قدمت إيران نفسها في هويتها السياسية المجددة، على أنها نصير للمحرومين والضعفاء في كل أنحاء العالم بنصٍ دستوري أيضاً! لتستطيع تسريب اهتمامها بالشيعة العرب كجزءٍ من المحرومين في العالم، والتسلل من خلالهم لبناء أدوات إقليمية في كل البلدان الممكنة، لاستخدامهم في سياسة تمدد النفوذ، كأذرع عسكرية قليلة الكلفة في أي مواجهة عسكرية قائمة ومحتملة.

ساعدت سياسات صدّام إيران في تمددها هذا، فاستطاعت بناء مؤسسات وكيلة في العراق تحارب إلى جوارها، وكان التبرير الأخلاقي لتلك المؤسسات لشرعنة اصطفافها في الحرب مع إيران بأنها تحارب صدام كطاغية للخلاص منه، ولا تحارب العراق الذي هو بلادها. لكن هذا المسار انتهى باستلام هؤلاء الوكلاء السلطة في العراق، وتسليم العراق كمقاولة «تسليم مفتاح» لإيران مستفيدين من الإدارة الكارثية الأميركية لاحتلال العراق. هذا النجاح أسال لعابها للهيمنة على المنطقة مستفيدة من الفترة الأوبامية الكارثية في سياساتها الشرق أوسطية، وجعلها تسرّع بناء المؤسسات الوكيلة، في البحرين، وسورية، واليمن، حتى إفريقيا، بالإضافة إلى لبنان الذي بنت فيه مؤسسة صلبة، كانت الأكثر تماسكاً وإقناعاً للجمهور من مختلف التوجهات والمذاهب.

في لبنان كان الأمر مختلفاً، إذ لم تستطع إيران-الملالي القادمة إلى المجتمع الدولي بمشروع «نبوة الخميني» الذي توجهت به إلى محرومي ومستضعفي العالم، الاستيلاء على حركة «المحرومين» التي أسسها موسى الصدر في منتصف السبعينات، في سياق نُذر الحرب الأهلية اللبنانية، وتمكين المحرومين الشيعة من لعب دور سياسي في بلادهم، لأن هذه الحركة قدمت نفسها كمشروع سياسي يخص فئة من السكان، لكن على أرضية وطنية. فأقدمت على بناء مؤسستها الخاصة التي جاءت تحت اسم «حزب الله». ومثلما وفرت الحرب العراقية الإيرانية غطاء لمشروعية نسبية لبناء مؤسسات عراقية وكيلة وتابعة لإيران، وفرت الحرب الأهلية اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان غطاء لمشروعية وجود حزب الله.

لم تعمل إيران على بناء حزب الله كمؤسسة عسكرية فقط، ستحمل بذرة فنائها في داخلها كأي ميليشيا مسلحة، بل بنته على غرار «دولة مصغرة» على الأرض اللبنانية مستفيدة من التجربة السابقة لمنظمة التحرير الفلسطينية في ذات السياق على ذات الأرض. فقد استولى الحزب بداية على كامل الدور الذي رسمته حركة أمل لنفسها في الجانب الاجتماعي، كما استولى تدريجيا على كامل إرث «المقاومة الوطنية اللبنانية» ضد الاحتلال الإسرائيلي في ذلك الوقت، احتكره عن الجميع، وجعله أساس الشرعية التي دثر بها الوجود الإيراني في لبنان، وأصبح هذا الوجود مبررا ليس فقط على مستوى لبنان، بل في كل العالم الإسلامي، وحتى لدى اليسار العالمي الذي يرفع شعار مقاومة الإمبريالية بحماس لا ينقطع!

نهاية الحرب اللبنانية باتفاق الطائف ثبتت وجود الحزب بكامل سلاحه وعقيدته الممانعة على الأرض اللبنانية بدعم من الأسد الأب، الذي انخرط في وقت مبكر في تحالف استراتيجي مع إيران. انتهى المطاف بحزب الله بعد تسوية الطائف إلى كيان عسكري اجتماعي سياسي، استولى على كامل المجال العام لشيعة لبنان بما فيها التمثيل السياسي، الذي جعله آخر أهدافه في تسلسل الترتيب، وجاء كتحصيل حاصل. وقد بنت إيران لدولة حزب الله في لبنان كافة مؤسسات الدولة؛ جيش عقائدي مسلح تسليحا قوياً، مؤسسات أمنية، علم، إعلام، مؤسسات خدمية تغطي كافة شؤون الحياة، بحيث انتقل مستوى الارتباط بإيران من مستوى عقائدي وحتى سياسي إلى مستوى معاشي حياتي يومي. شربك الحزب حياة الشيعة كليّا مع الدولة الإيرانية المصغرة في لبنان، حتى أولئك الذين لا يؤيدون مساره السياسي أو حتى العقائدي في مناطق سيطرته.

من هذه الدولة المصغرة ذات البنية العقائدية الصلبة، التي بنتها إيران في لبنان باسم «حزب الله»، والتي لا يعوز وجودها الشرعية، استولت على كامل لبنان الذي أصبح مرتهناً لإيران حتى في تفاصيله الصغيرة! كالإشراف الأمني على حركة مطار رفيق الحريري، المتهم باغتياله أساساً، لأنه يشكل عثرة في وجه هذا الاستيلاء التام، إذ إن أي مشروع وطني لبناني من أي طرف كان، سيكون بالضرورة متعارضا مع الهيمنة الإيرانية التامة على لبنان من خلال أدواتها التابعة، أي قوات الأسد وحزب الله، التي احتكرت القوة العسكرية والأمنية على الأرض أمام أطراف أخرى نُزع سلاحها تثبيتاً للطائف.

شكلت انتفاضة الأرز لحظة فاصلة في تاريخ لبنان الحالي، وبدا أن الخروج العسكري لقوات الأسد من لبنان سيجرف معه هيمنة حزب الله كوكيل رسمي ومعلن لولاية الفقيه الإيرانية، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، ليكتمل إنهاء تلك الانتفاضة بقدوم إدارة أوباما التي هادنت إيران بشكل كامل لإنجاز الاتفاق النووي.

شملت مهادنة إدارة أوباما لإيران غض النظر عن مشروعها في المنطقة الذي تضمن الاستيلاء على سورية بعد لبنان والعراق، بالإضافة إلى محاولاتها في اليمن، بعد الفشل السريع الذي منيت به في الاستيلاء على البحرين نتيجة القرار السعودي الحاسم في ذلك الوقت بإحباط هذا التمدد لخاصرتها في مهده، عبر استخدام قوة عسكرية تحظى بالغطاء الشرعي والإقليمي والدولي. وهو ما أعيد في اليمن أيضا عبر «عاصفة الحزم» ضمن سياقات مختلفة نسبياً في مسارات الحرب مع الحوثيين. فقد استثمرت إيران في الحوثيين لتكوين «كيان دولتي» في اليمن يستلهم «موديل» حزب الله في لبنان! في التسمية (أنصار الله) كما في التدريب، الإعلام، خلق المؤسسات، كسب المشروعية… خصوصا وهي ترى أن حزب الله أعطى مردوداً يفوق عشرات المرات الاستثمار الذي أنفقته فيه.

كل هذه السردية لأصل إلى خلاصة بأن مواجهة حزب الله كوكيل إيراني أصبح إقليمياً، إذ لم يعد دوره محصورا في لبنان، يستوجب تفكيك كامل المنظومة التي بناها على مدار العقود الماضية، وإن حصر المواجهة في الجانب العسكري لن يعطي ثماراً مستدامة، فقد فشلت إسرائيل ذات اليد العسكرية الطائلة في المنطقة في اجتثاث هذا الكيان الذي يسرطن المنطقة طائفيا وسياسياً، ويفتتها لوضعها تحت علم إيران-الملالي.

إن بناء مواجهة استراتيجية جادة مع المشروع الإيراني يستلزم بداية بناء أدوات محلية لهذه المواجهة على أسس صلبة كما فعلت إيران بالضبط. إن نقطة الانطلاقة الصحيحة لهذه المواجهة هي الإفادة من المناخ شديد العداء لإيران الذي توفره إدارة ترمب، وخوض حرب قانونية دولية لتصنيف حزب الله منظمة إرهابية لا تقل خطراً على العالم عن القاعدة ومشتقاتها، وانتزاع قرارات دولية بهذا الخصوص. هذا الإجراء سيسهل خنق تدفق التمويل الإيراني إليه، وسيسهل خنق مؤسساته الإعلامية بوسائل قانونية دولية، لكن الأهم هو وجوب نزع الحاضنة الشيعية اللبنانية والعربية منه، وهذا أصعب ما في المهمة، لكنه سيعطي جرعات علاجية تؤسس لزوال هذا السرطان من المنطقة بشكل دائم.