كتبت صحيفة “الراي” الكويتية”:
…الشيء الوحيد الواضح في بيروت الآن هو المصير الغامض. فمع دخول الاستقالة المفاجئة التي أعلنها رئيس الحكومة سعد الحريري في بيان متلفز من الرياض أسبوعها الثاني اليوم، انتقل المأزق من مجرّد حدَث سياسي داخلي بمفاعيل إقليمية الى قضية اقليمية ساخنة استدرجتْ استنفاراً دولياً على مدار الساعة.
وسريعاً تغيّرتْ الوجهة من السؤال عن مصير الحكومة اللبنانية في ضوء الاستقالة الصادمة لرئيسها الموجود في الخارج الى أجواء توحي بأن المنطقة على كفّ الخمس دقائق الأخيرة قبل حربٍ قد تكون شرارتها لبنان الذي وقف في بداية المطاف مذهولاً أمام انكشافه على تحوّلات غامضة.
ولم يعد سراً مع مضي أسبوع على “الصاعقة الحريرية” ان الحُكم في بيروت ما زال على “إنكاره” لاستقالة رئيس الحكومة وتعامُله مع هذا التطور على انه “لم يكن” وأملي على الحريري، وهو (اي الحُكم اللبناني) يمضي قدماً في محاولة تحريك مواقف دولية ووساطات عنوانها عودة الحريري أولاً وسط تلويح بتصعيد اللهجة والاندفاع نحو خطوات بينها اللجوء الى مجلس الأمن.
ورغم ان المكتب الإعلامي للحريري واظب في الأيام الماضية على إصدار بيانات عن استقبالات رئيس الحكومة لسفراء أجانب في الرياض والإيحاءات عن ان خشيته من الاغتيال هي التي تحول دون عودته الى بيروت، فإن الرئيس ميشال عون يرفع وتيرة تصوير الأمر على ان الحريري محتجز، وسط اعتبار مصادر مطلعة ان “التمتْرس” خلف هذا العنوان يفرْمل انطلاق المفاعيل السياسية لاستقالة الحريري التي ربطها بخطابه المتلفز بإشكالية سلاح “حزب الله” وأدواره الاقليمية و”عدوانه” على دول خليجية، في حين ترى دوائر سياسية انه لم يعد من مجال لفكّ الارتباط بين مساريْ عودة الحريري ووضْع ملف “حزب الله” على الطاولة.
وفي هذا السياق، أبلغ عون مراجع رسمية محلية وخارجية عن “ان الغموض المستمر منذ اسبوع والذي يكتنف وضع رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري منذ اعلانه استقالته، يجعل كل ما صدر ويمكن ان يصدر عنه من مواقف او خطوات او ما ينسب اليه، لا يعكس الحقيقة، بل هو نتيجة الوضع الغامض والملتبس الذي يعيشه الرئيس الحريري في المملكة العربية السعودية، وبالتالي لا يمكن الاعتداد به”.
وفيما كان مسؤول لبناني يؤكد لوكالة “رويترز” ان “رئيس الجمهورية قال لسفراء أجانب إن الرئيس الحريري مخطوف ويجب أن تكون له حصانة”، فإن دوائر سياسية لم تستبعد ان يكون موقف الرئيس اللبناني مرتبطا بما نُقل بعد زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للرياض وإجرائه اتصالات غير رسمية مع الحريري من ان الأخير متخوف من العودة بسبب تهديد أمني باغتياله وتالياً ليس مقيّد الحركة.
وكان بارزاً أمس اتصال ماكرون بنظيره اللبناني حيث تداول معه في الاوضاع العامة والتطورات الاخيرة المتصلة باعلان الرئيس الحريري استقالة حكومته من الخارج.
وحسب القصر اللبناني، فقد شدد الرئيس الفرنسي على التزام باريس “دعم لبنان ووحدته وسيادته واستقلاله، والمساعدة في تثبيت الاستقرار السياسي والامني فيه. واتفق الرئيسان عون وماكرون على استمرار التشاور في ما بينهما لمتابعة التطورات”.
وجاء اتصال ماكرون فيما نائب كبير مستشاريه أورليان شوفالييه موجود في بيروت لمواكبة التطورات على الأرض وتفادي اي انفلات في الأزمة من شأنه “تفجير المنطقة” انطلاقاً من “الفتيل” اللبناني الذي “اشتعل” بفعل إعلان الرياض “طفح الكيل” حيال ممارسات “حزب الله” ضدّ أمنها الاستراتيجي ودوره في اليمن.
ورغم ان باريس تظهر في واجهة العواصم التي تتحرّك على خط الأزمة اللبنانية بامتداداتها الاقليمية، هي التي استقبلت المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم، الذي اطلع عون على نتائج الاتصالات التي أجراها مع عدد من المسؤولين الفرنسيين، فإن دولاً غربية وعربية عدة استنفرت لتفادي اي “انفجار كبير” ولا سيما مصر التي يتهيأ وزير خارجيتها لجولة خليجية، والولايات المتحدة التي حذّر وزير خارجيتها ريكس تيلرسون من استخدام لبنان مسرحاً لخوض “نزاعات بالوكالة”، بعد الأزمة الناجمة عن استقالة الحريري، واصفاً “رئيس الوزراء اللبناني الحريري” بأنه “شريك قوي” للولايات المتحدة.
وأمس، أفاد بيان صادر عن الناطقة باسم البيت الأبيض ساره ساندرز، بأن “الولايات المتحدة تدعو جميع الدول والأحزاب إلى احترام سيادة لبنان واستقلاله وآلياته الدستورية”. وأضافت أن واشنطن ترى في الحريري “شريكا جديرا بالثقة” و”تؤكد أن الجيش اللبناني وقوات الامن اللبنانية هي السلطات الأمنية الشرعية الوحيدة في لبنان”.
وتابعت “في هذه المرحلة الدقيقة، ترفض الولايات المتحدة كذلك أي محاولات من قبل الميليشيات داخل لبنان أو أي قوات أجنبية لتهديد استقرار لبنان وتقويض المؤسسات الحكومية اللبنانية أو استخدام لبنان كقاعدة لتهديد دول أخرى في المنطقة”.
وما جعل موقف الولايات المتحدة يكتسب أهمية خاصة انه جاء بعد لقاء وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان مع مساعد وزير الخارجية الاميركي الموقت ديفيد ساترفيلد ومع المسؤول عن قسم الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، الكولونيل المتقاعد مايكل بيل، وسط اعتقاد دوائر سياسية ان واشنطن تبقى الأكثر تأثيراً في مجرى الأحداث التي استجرّتْها استقالة الحريري وما أفضت اليه من توتر غير مسبوق على خط لبنان – السعودية.
وفي موازاة ذلك، يحاول لبنان الرسمي إبقاء الأزمة “تحت السيطرة” ومنْع تَمدُّدها نحو “حرق المراكب” مع الرياض، وسط مساعٍ لضبْط اي تحركات في الشارع قد تحمل مفاجآت غير محسوبة، في حين يسود قلق لدى بعض الأوساط السياسية من مفاعيل تظهير غياب الحريري على أنه بوجه السعودية وصولاً الى طرح الموضوع على مجلس الأمن.
وفي هذا السياق أشارت تقارير الى ان عون الذي انتظر اسبوعاً لعودة الحريري، أمْهل أياماً اضافية فإذا لم يرجع رئيس الحكومة لتقديم استقالته وجهاً لوجه ليُبنى على الشيء مقتضاه، فإنه سيدفع نحو التقدم بشكوى الى مجلس الامن الدولي، في ظلّ تمسُّكه بأن على الحكومة الحالية ما زالت قائمة ودستورية، وسط رهان على قاطرة روسية تساعد لبنان في رفْع هذه المسألة الى مجلس الأمن.
إلا ان أوساطاً مطلعة تتوقف عند عدم بروز اي تجاوب لبناني حتى الساعة مع اقتراح القائم بالأعمال السعودي في بيروت وليد البخاري بأن يزور وزير الخارجية جبران باسيل الرياض ويلتقي الحريري، لافتة الى ان وراء التريث عدم رغبة في فتْح الباب أمام امكان تقديم رئيس الحكومة استقالة خطية وتسليمها الى باسيل بما من شأنه ان يضع جميع الأطراف في لبنان امام واقع انطلاق “المعركة السياسية” التي جاءت الاستقالة في سياقها، رغم محاولة بعض الأوساط ربْط التريث بأن مثل هذ الزيارة ستُفقد لبنان ورقة ضغط لتسريع عودة الحريري، ومشيرة الى ان مثل هذا المنطق لا يخدم مساعي تهدئة الأجواء مع الرياض التي يزورها غداً البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي يرتقب ان يجتمع برئيس الحكومة المستقيل.
وفي سياق غير بعيد كان لافتاً موقف لرئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، قال فيه: “إلى كلّ الذين يذرفون الدموع على غياب الرئيس سعد الحريري من فريق 8 مارس، لو كنتم فعلاً تريدون عودته إلى لبنان لتطلَبَ الأمر قراراً واحداً لا غير وهو الانسحاب من أزمات المنطقة. والسلام”!