كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
مع بداية أزمة احتجاز الرئيس سعد الحريري وعائلته في السعودية، أخذ مصرف لبنان سلسلة إجراءات أُبلغت إلى المصارف شفهياً، وهي تتعلق بثلاث نقاط: منع حسم السندات (أي منع تسييلها قبل فترة الاستحقاق)، قبض قيمة طلبات شراء الدولار فوراً (كانت المهلة 48 ساعة)، منع تحريك الحسابات المجمّدة قبل فترة استحقاقها.
كان الهدف من هذه الإجراءات منع المصارف من «اللعب» بسوق القطع وإثارة الهلع بهدف تحقيق مكاسب جانبية من المضاربات، خصوصاً أن عدداً من المصارف عمل جاهداً في اليومين الأولين من الأزمة على تقديم النصح لزبائنه وموظفيه بضرورة تحويل أموالهم من الليرة إلى الدولار، ما خلق طلباً كبيراً يوم الاثنين الذي أعقب استقالة الحريري.
مفاعيل هذه الإجراءات انعكست تهدئةً في الأسواق وخفّفت من وتيرة الطلب على الدولار، إلا أنها خلقت مشكلة ثانية. فالمصارف كانت توظّف سيولتها في سندات الخزينة أو في شهادات الإيداع (استعملت سندات الخزينة وشهادات الإيداع كأدوات لتعقيم وامتصاص السيولة الناتجة من الهندسات المالية التي نفذها مصرف لبنان)، وبالتالي فإن منع حسم هذه السندات زاد من أزمة جفاف السيولة في السوق، في وقت سُجِّل فيه لدى المصارف طلبات كبيرة لتحويل ودائع من الليرة إلى الدولار. بعض المصارف لم يكن لديها سيولة كافية لتلبية طلبات كل الزبائن وشراء الدولارات من مصرف لبنان، ما اضطرها إلى الاستدانة من مصارف أخرى لديها سيولة قادرة على إقراضها.
الـ«انتربنك» إلى 120%
هكذا تحوّلت السيولة بين المصارف إلى سلعة «نادرة». كلفة الحصول على هذه السلعة يعبّر عنها بسعر الفوائد المسماة «إنتربنك». معدل فائدة الإنتربنك كان 4% قبل يوم الاثنين الذي تلا استقالة الحريري، لكنه سرعان ما ارتفع إلى 15% و40% و50% و70% وصولاً إلى 120% خلال اليومين الماضيين.
اليوم، لم يعد هناك سقف لفائدة الإنتربنك، وبات من يحمل السيولة قادراً على تحقيق أرباح كبيرة من إقراضها لمصارف بحاجة لها. ونتيجة هذا الوضع، اكتشفت المصارف أن كلفة الإنتربنك عليها أعلى من كلفة إغراء المودعين بإبقاء ودائعهم بالليرة. لذا، باشرت مصارف كبيرة وصغيرة في خطوات «جهنمية» قضت برفع الفائدة على ودائع بعض كبار الزبائن من معدل وسطي يبلغ 6% إلى 7% و8% و9% تبعاً للعلاقة مع الزبون وحجم وديعته وقدرته التفاوضية وفترة تجميد الوديعة التي لا تقل عن 6 أشهر.
وبحسب المطلعين، فإن هذا الأمر يسمّى «سوقاً سوداء للفوائد»، خصوصاً أن مصرف لبنان لم يتدخل بعد ولم يتخذ أي إجراء لكبح هذا الأمر الشاذ ومعالجته قبل أن يتفاقم، علماً بأن بعض المصرفيين يجزمون بأن الهندسات المالية لـ«المركزي» هي مصدر المشكلة أصلاً، لأنها أتاحت للمصارف تحقيق عوائد تبلغ 12% على المبالغ الموظفة في الهندسات، وهذه العوائد استعملت لدفع فوائد أعلى للزبائن على قاعدة «مشاركة الزبائن فيها وإغرائهم» يقول أحد المطلعين.
الأمر لم ينتهِ عند هذا الحدّ، فالمودعون، ولا سيما الكبار، بدأوا يتناقلون هذه الأنباء «التي تتيح لهم ممارسة نوع من الابتزاز للمصارف للحصول على فائدة أعلى على ودائعهم». مسار من هذا النوع خطير، إذ إن أهداف المصارف لم تعد تقتصر على كبح جموح التحويل من الليرة إلى الدولار، بل بدأت تتنافس في ما بينها على الزبائن مقابل إغراءات بالفائدة.
إصدار الـ«يوروبوندز»
يأتي ذلك في ظل انحسار الطلب على الدولار إلى حدوده الدنيا مقارنة مع أول يوم بعد استقالة الحريري واحتجازه في السعودية، وقرب تنفيذ وزارة المال ومصرف لبنان عملية مالية تنطوي على أهداف نقدية وضعها المصرف لضبط الكتلة النقدية والسيولة، ومن بينها معالجة مشكلة جفاف السيولة لدى المصارف. إذ إن السيولة بالليرة الناتجة من الهندسات المنفذة في 2016 و2017 جرى امتصاصها على شكل سندات خزينة وشهادات إيداع في مصرف لبنان، ما أدّى إلى جفاف الاسواق واستئثار المصرف بالدولارات والليرة في السوق.
في هذا الإطار، فإن العملية بين الوزارة ومصرف لبنان، التي يتوقع تنفيذها خلال يومين، تقسم على مرحلتين:
ــــ في المرحلة الأولى ستصدر وزارة المال سندات يوروبوندز بقيمة 1.75 مليار دولار يكتتب بها كلها مصرف لبنان ويدفع ثمن الاكتتاب من خلال إطفاء سندات خزينة بقيمة مماثلة، أي 2550 مليار ليرة. السندات المطفأة ذات آجال قصيرة وبفائدة 7%. أما السندات المصدرة، فتمتدّ على 10 سنوات. وبنتيجة هذه العملية، فإن جزءاً من الدين العام سيتحول من دين بالليرة اللبنانية بآجال قصيرة إلى دين بالدولار يحمل آجالاً طويلة من دون أن يزداد حجم الدين.
وفي المقابل، سيقدم مصرف لبنان، بحسب مصادر مطلعة، عرضاً للمصارف لبيعها سندات اليوروبوندز مقابل دولارات طازجة تستقطبها من السوق، على أن يشتري منها سندات خزينة ويعالج مشكلة جفاف السيولة في السوق التي بدأت تظهر قبل الأزمة.
ــ المرحلة الثانية من العملية تتضمن أن يكتتب مصرف لبنان بسندات خزينة تصدرها وزارة المال بقيمة إجمالية تبلغ 3000 مليار ليرة وبفائدة 1%. الوفر المحقق من هذه العملية، بحسب مصادر مطلعة، يبلغ 6 نقاط مئوية، أي ما يوازي 180 مليار ليرة، وإذا احتسبنا أجل السند الوسطي الذي يمتد على 7 سنوات، فإن الوفر الإجمالي المتوقع من هذه العملية يصل إلى 1130 مليار ليرة.
ميزان المدفوعات يواصل العجز
جاء في النشرة الاقتصادية الصادرة عن «فرنسَبنك» لنتائج الاشهر التسعة الأولى من عام 2017، أن ميزان المدفوعات الذي يمثّل المؤشر الأساسي على التدفقات الرأسمالية نحو لبنان، لا يزال يسجّل عجزاً بقيمة 190 مليون دولار في نهاية أيلول 2017 مقارنة مع فائض بقيمة 544.9 مليون دولار في الفترة نفسها من 2016. ونجم هذا الأمر عن تراجع التدفقات المالية الخارجية إلى لبنان بنسبة 7.9% لتبلغ 11.6 مليار دولار، علماً بأن العجز التجاري الذي يمثّل أحد المكوّنات الاساسية لميزان المدفوعات، تراجع إلى 11.8 مليار دولار في نهاية أيلول 2017 بسبب تراجع الواردات بنسبة 2.5% والصادرات بنسبة 5.1%.
وتشير النشرة إلى أن أوضاع المالية العامة، تبقى غير مواتية في ظل العجز المتواصل في الميزانية العامة والنمو المستمر في المديونية، إذ زاد الدين العام الإجمالي بنسبة 4.3% ليبلغ 77.3 مليار دولار في نهاية آب 2017. وازداد الدين الخارجي بنسبة 2.4% إلى 29.8 مليار دولار، كذلك ازداد الدين الداخلي بنسبة 5.6% إلى 47.5 ملياراً خلال الفترة نفسها.