كتب وليد شرارة في صحيفة “الأخبار”:
الخلاف السعودي ــــ الفرنسي حول قضية خطف رئيس الوزراء سعد الحريري تطور مُلفت يأتي بعد سلسلة مواقف للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون تظهر جميعها تغييرات فعلية في السياسة الخارجية تجاه المنطقة والعالم، وفي الثوابت التي حكمتها منذ سنوات عدة.
الشراكة مع السعودية كانت احدى هذه الثوابت. وهي أدت في عهد الرئيس السابق فرنسوا هولاند الى تماه شبه كامل للسياسة الفرنسية مع السياسة السعودية في الشرق الأوسط، وتحديداً في ملفي سوريا وإيران. الاعتبارات الاقتصادية والتجارية، اي عقود السلاح الضخمة التي وقعت بين البلدين في تلك الفترة والرهان الفرنسي على عقود أخرى، كانت من الدوافع الاساسية لاعتماد هذه الوجهة من قبل دولة لم يتوقف دورها ووزنها على المستوى الدولي عن التراجع والضمور في العقدين الأخيرين.
لكن الدافع الآخر ايديولوجي بامتياز. فالتصور الاستراتيجي الذي بدأ بالتبلور في أواخر عهد الرئيس جاك شيراك وساد تماماً في مراكز صنع القرار خلال رئاستي نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند، قطع مع التقليد الاستقلالي في السياسة الخارجية الذي أرسي منذ ايام الرئيس شارل ديغول، وتبنى الخيار الأطلسي بلا تحفظ لدرجة المزايدة على الولايات المتحدة نفسها في الفترة التي سبقت التوقيع على الاتفاق النووي مع ايران او بالنسبة للموقف من الحرب في سوريا او حتى من علاقات «الغرب»، وهو كان مفهوما مستجدا في القاموس السياسي الفرنسي، مع روسيا والصين.
تزامَن انتخاب إمانويل ماكرون مع تحولات كبرى في المشهدين الإقليمي والدولي. فقد تمكن محور الممانعة من تعديل موازين القوى لمصلحته في الحربين الدائرتين في سوريا والعراق وفي دعم صمود ومقاومة اليمنيين للعدوان السعودي. اما على النطاق الدولي، فجاء انتخاب دونالد ترامب ليُكره الأوروبيين، ومنهم فرنسا، على التمايز عن الولايات المتحدة في عدد من الملفات الهامة من اتفاقية المناخ الى الاتفاق حول النووي الإيراني مرورا بالازمة في شبه الجزيرة الكورية. وهو يجبرهم ايضا على المزيد من التنسيق والاعتماد على النفس في علاقاتهم مع الولايات المتحدة حتى داخل الناتو، كما أسرّت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل بعد آخر قمة للحلف.
الرئيس الفرنسي، القادم من عالم المصارف والأعمال، والذي عيِّن وزيرا للاقتصاد عام 2014 في حكومة مانويل فالس الاشتراكية، من دون ان يكون عضوا في الحزب الاشتراكي، يميل بسبب خلفيته للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، الأميركية المنشأ، والتي تعتبر ان المعيار الرئيسي للحكم على صوابية اية سياسة هو ان تفوق ارباحها أكلافها. وللتذكير فقط، يعتبر هنري كسينجر وزبغنيو بريجنسكي من ابرز أتباع هذه المدرسة. تجلت الرؤية الواقعية في المواقف التي عبّر عنها ماكرون بعد وصوله الى الرئاسة. ففي مقابلة مع ثمان من الصحف الأوروبية الكبرى في ٢٣ حزيران الماضي، أعلن عن نهاية حقبة امتدت لعشر سنوات «سيطرت فيها اطروحات المحافظين الجدد ــــ بعد استيرادها الى فرنسا ــــ على سياستنا الخارجية». جاء هذا الإعلان في سياق حديثه عن مقاربة فرنسية جديدة للازمة السورية لا تشترط رحيل الرئيس بشار الاسد كشرط مسبق للتسوية. وأثار هذا التصريح عاصفة انتقادات من قبل المحافظين الجدد الفرنسيين داخل مؤسسات الدولة وخارجها، خصوصاً وزارة الخارجية ومراكز الدراسات المرتبطة ـــ بدرجة او بأخرى ـــ بها وشبكات الخبراء/ النجوم الاعلاميين وبعض وسائل الدعاية الإعلامية. لكن لماكرون وفريقه في المقابل حلفاء مؤثرين جدا داخل المؤسسات وخارجها وفي أوساط النخب والرأي العام، وهما وزيرا الخارجية الأسبقان هوبير فِدرين ودومينيك دو فيلبان. للأول، وهو من اقطاب المدرسة الواقعية في فرنسا، علاقة خاصة مع الرئيس الفرنسي الذي يتبنى لدرجة كبيرة قراءته للوضع الدولي، وينعكس ذلك في عدد من تصريحاته ومقابلاته، ويستشيره في الكثير من الأحيان. وجهة نظر فدرين يمكن تلخيصها على الشكل التالي: العالم انتقل من نظام احادي القطبية خاضع لهيمنة القوة الخارقة الأميركية (hyperpuissance américaine) الى نظام شبه فوضوي تراجعت فيه الولايات المتحدة الى مستوى القوة الدولية العظمى الاولى في مواجهة صعود دور قوى إقليمية عظمى كروسيا والصين، او متوسطة كإيران وتركيا والبرازيل وآخرين، وعدد من اللاعبين غير الدولتيين. الصراعات الدائرة في عالم اليوم ليست ايديولوجية، وهي لا تقع بين معسكرات كما كانت الحال عليه ايام الحرب الباردة، بل بين دول وأطراف يسعى كل منها للدفاع عن مصالحه وتعظيمها، ويتقاطع او يواجه الآخرين على قاعدتها. يعني ذلك بالنسبة للفرنسيين والأوروبيين انه لم يعد محرماً عليهم البحث عن قواسم مشتركة وامكانيات تعاون مع روسيا والصين وإيران ودول اخرى، من دون إعادة النظر بالضرورة بالعلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة. وبخصوص ايران، التي ناصبتها السياسات الفرنسية السابقة العداء، يقول فدرين، في حوار مع دورية La revue des deux mondes، «على الأوروبيين تجنب السير خلف الولايات المتحدة، واعتماد مقاربة اخرى تجاه ايران… اعتقد ان الدولة العميقة في الولايات المتحدة، اي الأجهزة الأمنية والجهاز الاداري والجيش وأضيف الحزب الجمهوري، لم يسامحوا الإيرانيين على إسقاطهم نظام الشاه واحتجازهم لدبلوماسيي السفارة الأميركية. قسم من أميركا ما زال يرغب بالانتقام، والتشدد الحالي مع ايران تعبير عن ذلك. تذكروا عندما كان غورباتشيف يحاول إصلاح النظام السوفياتي، كان ميتران وهلموت كوهل وجاك دولور يرغبون في مساعدته، وأنشئت مجموعة الدول الثماني لهذه الغاية. لكن أميركا ارادت للاتحاد السوفياتي ان يغرق. الامر نفسه ينطبق الان على ايران… التحالف المعلن بين ترامب والوهابيين في السعودية والليكود هو تماما عكس ما ينبغي على الغربيين فعله، اي التموضع في موقع وسطي يسمح لهم بالحوار مع السنة ومع الشيعة». مواقف الرئيس الفرنسي المدافعة عن الاتفاق النووي مع ايران وإعلانه عن نيته زيارتها مستقبلا وكذلك موقفه المتحفظ على التصعيد السعودي ضد قطر أوضحت جميعها ان الرؤية المذكورة أعلاه لها تأثير كبير على مسعاه لما سمّاه إعادة التوازن لسياسة بلاده الخارجية. وقد جاء اختيار برنار إيمييه، السفير السابق في لبنان وتركيا والجزائر، لمنصب مدير الاستخبارات الخارجية بدلا من منافسه ميشيل ميراييه، المدير السابق لهيئة الشؤون الاستراتيجية التابعة لوزارة الدفاع والسفير الحالي في دولة الإمارات، والمعروف بتأييده للمحافظين الجدد ولاسرائيل، كمؤشر إخر إلى الرغبة في إعادة التوازن.
لفرنسا اليوم علاقات مميزة، أساسا اقتصادية وتجارية، مع عدد من دول المنطقة كمصر والإمارات. وهي تعمل جاهدة على تطويرها مع العراق وإيران. وستساعد الاستدارة الواقعية التي شرع بها ماكرون، والابتعاد عن الانحيازات المغالية وسياسات التدخل في شؤون الدول الاخرى بحجج واهية، على هذا الامر على أغلب الظن.