كتب الياس الزغبي
الكرامة والإستقرار… هما العبارتان الأكثر شيوعاً في الأيّام الأخيرة، على خلفيّة استقالة الرئيس سعد الحريري وظروفها وتداعياتها، وتختصران حدَّي الأزمة وقطبَيها المحلّي والخارجي، والركيزتين الضروريّتين لقيام الدولة.
في العبارة الأُولى “الكرامة”، تكمن معاني السيادة والاستقلال والقرار الوطني الحرّ، وفي الثانية “الاستقرار”، تتجسّد إرادة السلم الأهلي ومفهوم التوازن والعيش المشترك في غمرة الأنواء والصراعات الخارجيّة.
لكنّ الترجمة الفعليّة للعبارتين – الركيزتين، تشهد خللاً بنيويّاً في تفسير مضمونهما وخريطة تطبيقهما لجعل لبنان دولة مستقرّة كريمة ذات سيادة.
فمفهوم الكرامة الوطنيّة لا يتجزّأ، تماماً كالسيادة والاستقلال. وقد عاينّا تجزئة خطيرة لهذا المفهوم في الأسبوعين الفائتين، إذ استيقظت “الكرامة الوطنيّة” حين طرأت شُبهة “احتجاز” الرئيس الحريري في الرياض، وظلّت غافية حين أعلن الرئيس الإيراني أنّ لا قرار يُتّخذ في لبنان إذا لم يتوافق مع مصلحة إيران، وتبعه أمس إعلان “قائد الحرس الثوري الإيراني” رفضه التفاوض على سلاح “حزب الله”، مؤكّداً بذلك أنّ “الحزب” جزءٌ لا يتجزّأ من “الحرس”، أو نخبته المعروفة ب”فيلق القدس”.
كما تبعه وقوف السفير اللبناني أمام بشّار الأسد في مشهد لا يمتّ بصلة إلى مسلَّمة الكرامة الوطنيّة، لألف اعتبار واعتبار، وتاريخ الدم والنار.
و”الكرامة الوطنيّة” لا تكون فقط بالتصدّي لتدخّل عربي مفترض في لبنان، والسكوت عن التدخّل العجمي السافر في قرار لبنان وحربه وسلمه ومصيره.
والمادّة الثامنة من ميثاق جامعة الدول العربيّة تتحدّث عن عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة ما بين الدول العربيّة نفسها، فمن باب أَولى أن يرفض لبنان تدخّلاً أعجميّاً في شؤونه، والمقصود هنا التدخّل الإيراني.
والقول بـ”النأي بالنفس” عن الصراعات العربيّة الداخليّة لا يجوز أن ينطبق على إيران وسواها من الدول خارج جامعة الدول العربيّة. وهنا يصحّ المثل اللبناني السائر: أنا وأخي على إبن عمّي، وأنا وإبن عمّي على الغريب. فأبناء الأعمام هنا هم العرب، والغريب هو طبعاً إيران. وإلاّ، فما معنى انتساب لبنان إلى الجامعة العربيّة، وما معنى نصّ دستوره أنّه “عربيّ الهويّة والانتماء”؟ّ!
لذلك، فإنّ سياسة النأي بالنفس لا تصحّ حين تكون المصلحة العربيّة المشتركة مهدّدة، لأنّ هذه المصلحة هي لبنانيّة في الوقت نفسه. وهناك مواثيق عربيّة كثيرة يلتزمها لبنان، سياسيّة وإقتصاديّة وثقافيّة ودفاعيّة…
وعدم تجزئة الكرامة ينطبق على عدم تجزئة السيادة. مجرّد وجود قرارين وسلاحين واستراتيجيّتين في دولة واحدة يُلغي سيادتها واستقلالها. فلعلّ أهل “الكرامة الوطنيّة” يتنبّهون إلى هذه الاستنسابيّة وهذا الخلل في مقاربتها كي يستقيم مفهومها ويتصحّح معها مفهوم السيادة.
أمّا بالنسبة إلى عبارة “الاستقرار”، فإنّها في أساسها مطلب وجودي للبنانيّين. لكنّ الاستقرار الصحيح يعني وجود توازن وطني داخلي وخارجي، وليس حالة غلبة بالقرار والسلاح.
إنّ استقراراً مفروضاً كمنّة من قوي على ضعيف هو حالة إذعان لا غير، أو صكّ استسلام يفرضه منتصر على مهزوم، ويستطيع المنتصر سحب “مظلّة الأمان” من فوق رأس الراضخ ساعة يشاء.
تحت وصاية النظام السوري، كان هناك حروب ثمّ استقرار أمني مفروض بآلة القوّة وعلى حساب الحريّة، وحين بدأ احتلاله للبنان يهتزّ ارتدّ على قيادات اللبنانيّين الأحرار تنكيلاً واغتيالاً. فمن يضمن ألاّ يكون الاستقرار- المكرُمة الذي يتحدّثون عنه الآن شبيهاً بذاك الاستقرار، وبتداعياته نفسها، حين يشعر “المحور” الذي ينتسب إليه “حزب الله” باهتزاز نفوذه في المنطقة ولبنان؟
ثمّ إنّ الاستقرار السليم لا يقوم على أساسين متحرّكَين.
فهل بناء الاستقرار اللبناني على حالة متحرّكة غير ثابتة كالعلاقة مع نظام بشّار الأسد المطروح في المزاد الإقليمي والدولي، وحالة أخرى غير مستقرّة ولا أفق لها كالنفوذ الإيراني، هو بناء ثابت وسليم؟
إنّ الغيارى الفعليّين على استقرار لبنان يُقيمون سياستهم على أسس ثابتة لا متحرّكة، وعلى نأي فعلي بلبنان عن العلاقة بالمتغيّرات، ويتريّثون في ربط لبنان بها (وهذا هو التريّث البنّاء والانقاذي)، ويلتزمون فعليّاً سياسة خارجيّة مستقلّة ومحايدة، وليس كتلك التي شهدنا نماذجها الالتحاقيّة، بما فيها من هواية وتأليب أو تحريض سياسي، في الآونة الأخيرة.
ويبقى أنّ إرساء لبنان على ركيزتَي الكرامة الوطنيّة والاستقرار يتطلّب رؤية سليمة غير منحازة، وسياسة حكيمة غير قائمة على ردّات الفعل المتسرّعة.
ولبنان هو الآن أحوج ما يكون إلى استلهام تراث كباره في التعقّل والفطنة والحكمة.