كتبت ميسم رزق في صحيفة “الاخبار”:
انتفض سعد الحريري لكرامته في وجه السعودية وكلّ الذين استغلوا غيابه القسري للانقضاض عليه. ردّ على الانقلاب بانقلاب شعبيّ بالشكل، سياسي في المضمون، مُستشرساً لاستعادة ساحته وتحصينها من جميع الدخلاء في الداخل والخارج.
مُتلهّفاً بدا الرئيس سعد الحريري أول من أمس. مُتلهّفاً للبلد. لبيته في وادي أبو جميل. لعناق الناس. للصّخب. للتصفيق. للقبلات. للهتاف باسمه «سعد. سعد. سعد». خانته دمعته على شرفة منزله، حين وقفَ ليحيّي المحبّين. حاول إخفاءها بين ذراعي عمّته بهية التي سارعت إلى احتضانه. سعد الحريري قبل يومين لم يكُن هو نفسه رئيس الحكومة الذي استقال في أرض غير أرضه، بل رئيس تيار المستقبل الذي انتفض لكرامته الشخصية على كل الغادرين به، بعد كل المرارة التي ذاقها طوال أسبوعين.
على قاعدة «الضربة التي لا تقتُل، تقوّي» أطل الحريري على جمهوره، ولاقى مناصريه الذين احتشدوا في حديقة منزله على أنغام الوفاء له. رسم بالمختصر المفيد ملامح المرحلة المقبلة، والمسار الذي سيسلكه، مُتسلّحاً بمشهدية شعبية للانقلاب على انقلاب المملكة، وقطع الطريق على كل ما خطّطت له. وهي لحظة استفاد منها الحريري الذي لم يكُن ليحلم بها قبل 4 تشرين الثاني… لحظة «الزحف الأزرق» لتجديد الولاء والوفاء.
وعلى قدر لحظات العواطف والمشاعر المتأججة، وشوارع المربع الأمني لبيت الحريري التي امتلأت بالحشود، جاء خطاب الرئيس غير المستقيل مفاجئاً، وفاق كلّ توقّع. للمرّة الأولى منذ عام 2005، لم يستنفر الرجل شارعه وماكينته في وجه حزب الله وإيران، بل وقف مستشرساً لاستعادة ساحته وتحصينها من جميع الدخلاء المتسلّقين على غيابه وأخطائه، في الداخل والخارج، وهو الأمر الذي شرح في ما بعد خطوة التيار بحصر التجمّع بالمستقبليين وحدهم، واستبعاد حلفاء الأمس عنه.
ولم يكُن خطابه منذ يومين عبثياً، ولا هو مجرّد خطاب عاطفي لردّ الجميل، بل كان رسالة واضحة، سجّل من خلالها تحولاً في خطاب التيار، ووضع النقاط على الحروف في علاقاته وارتباطاته في الداخل والخارج، وكان عنواناً لمخاض صعب سيشهده تيار المُستقبل في المرحلة المقبلة.
فحين وقف الحريري متوجهاً إلى جمهوره بالقول: «هذه لحظة لا يمكن أن أنساها. اللقاء مع الأحباب والرفاق ومع الأهل الحقيقيين تسمى لحظة الوفاء لأنكم تعلّمون العالم الوفاء، هذه لحظة الصدق معكم أنتم لأنكم تعلّمون العالم الصدق. هذه لحظة للتاريخ والجغرافيا، والذي لديه عيون ترى فليرَ، والذي لديه أُذنان فليسمع»، لم يكُن يقصد حزب الله ولا إيران ولا التيار الوطني الحرّ ولا حركة أمل، ولا من كان يُفترض أنهم خصومه. هذا الكلام بدا موجهاً بالدرجة الأولى إلى المملكة العربية السعودية، ومن ثمّ إلى «الحلفاء» الذين تآمروا عليه في الداخل. أراد الحريري أن يقول إن أحداً لا يستطيع أن يلغي سعد الحريري ولا جمهوره، ولا استبداله لحظة يشاء، بأي كان، لا بانقلاب سعودي ولا بغيره». وفي سابقة بتاريخ الحريري السياسي، تقصّد عدم ذكر كلمة المملكة ولا مرّة واحدة في خطابه، ولا شكرها، وكأنه أراد الإيحاء بأنه غير ملتزم سقفها السياسي ولا مشروعها. بل أكد «استقرار البلد أولاً»، الذي حاولت المملكة ضربه خلال الفترة الماضية.
وما إشادته بمجيء جمهوره الذي أتى ليقول له: «الحمد لله على السلامة» وردّه بالقول: «الحمد لله على سلامة لبنان»، إلا تأكيد على أنه لم يستقل بإرادته، ولا مكث بإرادته في الرياض.
ومن أوجه التحدّي الذي كشفها الحريري ضد المملكة، هو ظهوره محاطاً بفريق عمله المغضوب عليه في المملكة العربية السعودية. ففيما توارى كل السبهانيين في بيت الوسط عن الأنظار، ووقفوا في الصفوف الخلفية، تصدّرت المشهد دائرة الرئيس الحريري الضيقة من نادر الحريري إلى نهاد المشنوق وغطاس خوري وباسم السبع، منتشرين على شرفات المنزل، كأن الرجل يؤكّد حفظ دورهم كحلقة موثوق بها، رافضاً أي فيتو عليهم.
وعلى عكس ما تمنّاه من يدّعون صداقة الحريري في الداخل، لم يتحدّث الأخير بنَفَس السبهان ولا رجاله، بل ظهر أكثر توازناً، رامياً كل أدبيات 14 آذار وكل قادتها خلف ظهره، في صورة تُظهر شيئاًَ من القطيعة معهم، إيذاناً بمرحلة جديدة من التحالفات والصداقات.
ولمن لم يستوعب مضمون خطاب الحريري للوهلة الأولى، وكي لا يفهم كلامه وكأنه عابر، تقصّد المستقبل أمس من خلال بيان كتلته النيابية التي اجتمعت أمس بحضور المكتب السياسي، تكرار كل ما جاء في الخطاب. مجدداً أعرب المجتمعون عن «ارتياحهم لتجاوب الحريري مع تمني رئيس الجمهورية العماد ميشال عون التريث في تقديم الاستقالة»، معتبرين أنها «خطوة حكيمة»، ما يعني تجديد رفض الخيار السعودي. ومجدداً أيضاً لم يأتِ البيان على ذكر المملكة العربية السعودية، إذ حصرت مشاعر الامتنان والتقدير بـ«الحشود التي تقاطرت إلى بيت الوسط حاملة رايات الوفاء للحريري، لتجدد الثقة بقيادته».
مشهد تيار المُستقبل اليوم يبدو مغايراً لما كان عليه منذ أسبوعين. رئيسه يحاول رسم طريقٍ جديد للزعامة، ساعياً إلى توسيع هامشه خارج العباءة السعودية. فهو لم يكسب نقاطاً في شارعه وبين جمهوره وحسب، بل ساعده الجنون السعودي في قطف الثمار وطنياً. لكن العاطفة التي عادت واحتضنته، لا تلغي حقيقة أنه في قلب العاصفة. أولاً، على مستوى العائلة، حيث لا يزال بهاء الحريري خياراً سعودياً قائماً، فيما تتمسك العائلة بزعامة «سعد». وثانياً، على مستوى التيار الذي سيكون أمام «نفضة» حقيقية، لا تُقصي سريعاً كل «المغامرين» بمصير «المستقبل». وثالثاً على مستوى الجمهور الذي لا يزال تحت تأثير الصدمة والمشاعر المزدوجة بين النقمة على المملكة العربية السعودية وصعوبة تقبّله الانسلاخ عن جلده. وهذا الجمهور سيكون أمام ضغط داخلي وخارجي، يتمثّل بمحاولة خصوم الحريري «على الساحة السنية» الاستفادة من أي تباعد بين الرجل والمملكة للانقضاض عليه من ناحية. والسؤال المطروح اليوم، هو: هل ستبدأ المملكة جدياً البحث عن بديل للحريري، أم أن مظلته الشعبية والدولية ستجبرها على إعادة تعويمه من جديد؟
يبدو الأمر محسوماً عند الرئيس الحريري في «محاسبة كل الذين أساؤوا التصرف داخل تيار المستقبل في الفترة الماضية». هذه الكلمة هي جوهر الاجتماع الذي عقدته أمس كتلة المستقبل النيابية في بيت الوسط، بحضور المكتب السياسي. وللسؤال عن المشمولين بالمحاسبة إجابة واحدة: «هم كتبة التقارير». سيحاسبهم الحريري، بحسب مقربين منه، لكن على قاعدة أنهم «اجتهدوا وأخطأوا». سيبعدهم عن دائرة القرار، من دون إبعادهم عن الضوء.
عبارة «كتبة التقرير» كانت محور حديث مدير تحرير جريدة المستقبل جورج بكاسيني، في مقابلة مع تلفزيون «المستقبل»، قال فيها إن «كتبة التقارير أساؤوا للبلد وضللوا أشقاء البلد، وهؤلاء لا يمكنهم أن يجمعوا 50 شخصاً، ولا يمكنهم أن يواجهوا إيران، ولا حتى جزر القمر، وعملهم كان التنظير على الرئيس سعد الحريري بأنهم أرباب المواجهة، وهناك أمثلة تاريخية على هروبهم من المواجهة، وأهمها 7 أيار».