كتب جورج شاهين في صحيفة “الجمهورية”:
مِن الواضح أن ليس في الحسابات الدقيقة لدى أيّ من المراجع الرسمية، أيّ إشارة إلى إمكان إحياء «طاولة الحوار» في بعبدا ولا استعادة حوار «عين التينة». بل إنّ هناك نوعاً من توزيع الأدوار تمّ التفاهم عليه لمعالجة أسباب استقالة الرئيس سعد الحريري مخافة أن تنتهي فترة التريّث إلى إعادة تقديمها مجدّداً. فما هو المطروح؟في موازاة التريّث في تقديم الحريري استقالته أو العودة نهائياً عنها، على وقعِ التّفاهم على تجميد العمل الحكومي في هذه المرحلة ما لم يطرأ أيّ حادث خارج المألوف أو غير طبيعي، يبدو أنّ البلاد قد دخلت فترة سماح قد تطول أو تقصر قياساً على حجم الاتصالات الجارية في الداخل والخارج لإتمام التسوية بنسختها الثانية وبالصيغة التي تُنهي الأسباب والدوافع التي قادت اليها، خصوصاً أنّ الحريري أعاد التذكير من قصر بعبدا في بيانه المكتوب سَلفاً والذي تلاه عقب اللقاء مع كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب قبل حفل الاستقبال في عيد الإستقلال، بالعناوين التي تضمّنتها «استقالة الرياض» ولو بلهجةٍ وعبارات مختلفة.
ويَعتقد المراقبون أنّ «مشروع استقالة» الحريري ليس لأمدٍ طويل وغير محدّد. فهناك مهَل تمّ التفاهم حولها على أن تكون سقفاً يؤدّي عند بلوغه في اسرع الآجال الى اتّخاذ القرار النهائي في شأن استئناف الحكومة عملَها أو الانتقال الى مرحلة تصريف الأعمال.
فاستنئاف الحريري توقيعَ بريدِه اليومي المزدحم بمئات القرارات والمراسيم المكدّسة كان بناءً على تفاهم ثلاثيّ حصَل في لقاء بعبدا، فقضايا الناس لا تنتظر مهَلاً واستحقاقاتٍ أيّاً كان حجمها وأهميّتها.
وبناءً على ما تقدَّم، يُجمع المراقبون على القول إنّ عملية توزيع الأدوار التي تقاسَمها كلّ مِن رئيس الجمهورية ورئيسَي مجلس النواب والحكومة قد انطلقت منذ اللحظة الأولى التي انتهى فيها الاستقبال في بعبدا، وهي ورشة كبيرة ومعقّدة استدعت إلغاءَ رئيس الجمهورية استقبالاته في اليوم التالي ليتفرّغَ في المرحلة الأولى لتقويم «إنجاز» الانتقال من «الاستقالة الملتبسة» في الرياض الى «التريّث» بناءً لرغبة رئيس الجمهورية، فطوى الحريري كتابَ الاستقالة واحتفظ به وعاد إلى «بيت الوسط».
وفي الوقت الذي بدأ رئيس الجمهورية اتصالاته الداخلية والخارجية، نُقل عنه قوله في لقاءات العمل التي عَقدها أمس الاوّل الخميس انّ البلد نجا الأربعاء من «زلزال كبير» بعدما كانت الأمور تنحو إلى مزيد من التعقيد، وتجاوز بعض تردّداته المباشرة بلا أضرار بالغة.
فانتعش على كلّ المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، واستعاد اللبنانيون ومعهم المقيمون على ارضِه الثقة بإمكان تجاوزِ هذه المحنة التي كانت سلبياتها متوقّعة على كلّ المستويات.
ولذلك يقول العارفون إنّ التوجّه في الأيام المقبلة هو إلى مزيد من المشاورات بغية تقديرِ المواقف والقرارات التي يمكن اتّخاذها لتعزيز الاستقرار وعودة الحكومة الى ورشتِها المنتظرة. فالاستحقاقات المقبلة باتت ضاغطة، وهناك مواعيد دستورية وتقنية وإدارية ومالية لا يمكن تجاهلها نظراً لانعكاساتها السلبية على اللبنانيين في اكثرِ مِن ملف.
وعند الدخول في التفاصيل، يَسترسل العارفون في تعداد البعض منها، وأبرزُها مثلاً إحياء عملِ اللجان الوزارية المكلّفة البحث في آليّة تطبيق قانون الانتخاب في ظلّ قرارٍ لا رجوع عنه في المرحلة المقبلة تحضيراً للانتخابات النيابية.
بالإضافة الى ملفّات النفط والنازحين السوريين ومشروع موازنة 2018 واستكمال الخطوات المقرّرة في مشاريع عدة تعني اللبنانيين في هذه المرحلة، والتي لا تنتظر السلامَ الشامل في المنطقة بعدما تمّ التفاهم على فرزِها وإبعادها عن المؤثرات الخارجية المتحكّمة بكثير من الملفات المعقّدة.
ويضيف العارفون، أنّ الجميع أدرَك ويدرك أنّ على لبنان مواكبة التحضيرات الجارية للمرحلة السياسية المقبلة في سوريا وأن يكون جاهزاً على كلّ المستويات لمجاراة ومواكبة المساعي والجهود المبذولة التي تقودها روسيا ومعها الثنائي التركي – الإيراني بالتفاهم المسبق مع الإدارة الأميركية والمملكة العربية السعودية لتعزيز اتفاقات وقفِ النار وتكريس الخريطة النهائية لـ«المناطق الآمنة» قبل الانتقال الى مرحلة البحث في دستور سوريا الجديدة وطريقة إدارة الحكم في المرحلة الإنتقالية وتلك الدستورية في مرحلة لاحقة ونهائية.
ويَستطرد العارفون: «يبدو أنّ واشنطن كلّفت موسكو إدارةَ هذا الملف في هذه المرحلة من ضِمن الضوابط والقواسم المشتركة التي تقود الى إطلاق العملية السياسية في سوريا، تزامُناً مع تعهّدِ الرياض بتوحيد قوى المعارضة السورية و«تنظيفها» من المتطرفين وفق «التعريف الجديد» المتفاهَم عليه بعد القضاء على «داعش» و»النصرة» في وفدٍ مشترك يقودها الى المشاركة في «مؤتمر شعوب سوريا» المقرّر مطلعَ السنة الجديدة، تأسيساً على مقررات جنيف التي ما زالت توفّر اكبرَ حجم من القواسم المشتركة.
وعليه فإنّ عملية توزيع الأدوار التي تمّ التفاهم الرئاسي عليها في لقاء بعبدا قد بدأت، على ان يقوم كلّ مِن رئيس الجمهورية ورئيسَي مجلس النواب والحكومة بالدور المطلوب من كلّ منهم من دون ايّ سقوف محددة، ولكن ليس الى اجلٍ غير محدود. فالمرحلة تقضي العملَ لترجمة ما يمكن التوصّل إليه في الداخل مع مراعاة الجهد الدولي المبذول لترتيبِ التسوية الجديدة التي على اساسها يمكن طيُّ المرحلةِ السابقة والانطلاق الى المرحلة المقبلة.
وبناءً على المشاورات التي انطلقت، لا يبدو في الأفق انّ هناك ايَّ توجّه في بعبدا إلى «طاولة حوار جديدة» تُحيي «مسلسل التكاذب والمزايدات» التي شهدتها التجارب السابقة من 2006 إلى 2014 كما يسمّيه بعض العاملين على خطّ التفاهم الجديد، في مقابل تجاهل عين التينة لاستئناف الحوار الذي كان قائماً بين «المستقبل» و«حزب الله» برعاية الرئيس نبيه بري، وأنّ السعي قائمٌ بحثاً عن صيغٍ جديدة فعّالة وتُقصّر المسافات توصّلاً الى ما يَطوي الاستقالةَ نهائياً والانطلاق في ورشةٍ جديدة هي ورشة العهد تحضيراً للانتخابات النيابية المقبلة والتي ستنبثق منها حكومة العهد الأولى.