كتب محمد قواص في صحيفة “العرب” اللندنية:
حتى إذا ما طوّر سعد الحريري “تريثه” في الاستقالة إلى عودة نهائية عنها، فلا يمكن للطبقة السياسية في لبنان إلا أن تعي أن البلد ما بعد الاستقالة لم يعد كما قبلها، وأن الظروف التي أنتجت تسوية العهد تبدلت وتغيرت بما يتطلب تموضعاً آخر وفق “صدمة” أطلقت من الرياض تم تحديثها وتحصينها من خلال العواصم التي مر بها الحريري قبل عودته إلى بيروت.
ارتاح أصحاب التسوية الرئاسية في لبنان إلى نظرية مفادها أن سلاح حزب الله ليس مشكلة لبنانية وأن معالجته إقليمية دولية. على ذلك استقال اللبنانيون من هذا العبء وذهب مسوّقو التسوية إلى التبرّؤ من أيّ تنازل عن شعارات السيادة والاستقلال، فأضحى فائض السلاح من ثوابت المشهد اللبناني فيما المطالبة بنزع ذلك السلاح لمصلحة الدولة وجيشها فقط باتت تمرينا نافراً منفّراً يمثّل نشازا على العزف الرائج.
لم تكن تلك التسوية تشبه الحريرية السياسية على الأقل بالنسخة التي صدرت عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكن الحريري الابن الذي عايش اغتيال والده واغتيال أصحابه وحلفائه وذاق وجع النوم في قصر بشار الأسد وألم “التضحية من أجل مصلحة لبنان” والنفي الذاتي والسياسي، ذهب بعيدا في توسّل صفقة تنهي الفراغ الرئاسي وتضخّ في المؤسسات اللبنانية حدا أدنى من اللبننة بانتظار جلاء غبار ما يدبّر في كامل المنطقة.
دار جدل كثير داخل تيار المستقبل وتحالف 14 آذار لابتلاع ترشيح الحريري للزعيم الشمالي سليمان فرنجية، الصديق الشخصي لبشار الأسد، أولاً، وميشال عون، الحليف المطلق لحزب الله، لاحقاً. بالنهاية انتصر سعد الحريري على الحلفاء متأملا أن ينتصر على الخصوم. بيد أن تلك التسوية حملت في ثناياها ما يدمرها ويطوّر ورما خبيثا داخلها سيقضي عاجلا أم آجلا على وجودها.
ربما أدرك الحريري سريعاً أنه مهما اجتهد فإنه بالنهاية يعمل داخل “دولة حزب الله”. وربما ارتضى الرجل أن يتعايش داخل تلك الحقيقة معوّلا على ظهور حقائق أفضل. وفيما يعمل حزب الله وفق وقائع ملموسة تؤكد هيمنته على الشارد والوارد في البلد، عوّل أصحاب الصفقة على أوهام لا تستقيم في علم السياسة، وبات فاضحاً أن تتساكن الحكومة مع واقع أن حزب الله يتعامل مع لبنان بصفته تفصيلا داخل الخرائط الإيرانية في كل المنطقة، وأن الميدان اللبناني لا يختلف بالنسبة إلى الحزب عن بقية الميادين التي تنشط داخلها طهران بأذرعها المتعددة من فيلق القدس إلى حزب الله مرورا بالميليشيات المستوردة من أفغانستان والعراق وربوع أخرى.
تمكن سعد الحريري من تمرير مخلوق التسوية العجيب في لحظة سماح سعودية. كانت الرياض تنتقل من حكم إلى حكم وتتلمس في تلك الفترة مسالك الحكم الجديد وقواعده، فلم تر ضيرا من مواكبة الحريري لعل في خطته ما يخرج لبنان من معسكر معاد، وربما استعادته داخل معسكر صديق. وكانت الرياض تعيش مخاض الانتقال من سعودية إلى أخرى، والأرجح أن تلك “السعودية الجديدة داخل السعودية”، وفق تعبير الحريري في مقابلته التلفزيونية في الرياض، هي التي ثارت على “إثم” ارتكب ووجب التطهّر من خطاياه.
لم يعد بالإمكان القبول بأن يبقى سلاح حزب الله خارج المحاسبة اللبنانية والاستكانة إلى واقعه الإقليمي. ولم يعد جائزا استسلام الطبقة السياسية اللبنانية إلى هذا الواقع بصفته قدرا وجب التعايش معه. قد لا يمتلك المعارضون لفائض السلاح إمكانات تدجين ذلك السلاح، لكن ذلك لا يعني السكوت عنه والعيش وفق أمره الواقع. بمعنى آخر، لا تستطيع الرياض أن تدّعي مواجهة النفوذ الإيراني في كل المنطقة فيما حلفاؤها في لبنان شركاء كاملون للذراع الإيرانية في لبنان.
حين كان السلاح الفلسطيني منتشراً في لبنان منذ نهاية الستينات من القرن الماضي، كان الأمر يشكل معضلة أمام الدولة اللبنانية. سعت الحكومة لتنظيم الأمر من خلال “اتفاق القاهرة” لكن الكيان اللبناني المعقّد لم يحتمل هذا الفائض على توازنه فدخلت البلاد في الحرب الأهلية اللبنانية. ولئن أشرفت القوات متعددة الجنسيات على خروج السلاح الفلسطيني بعد حرب إسرائيلية ضروس فإنّ اللبنانيين لا يريدون عودة أيّ حرب إلى بلادهم للتخلص من سلاح يخطف دولتهم ويدجّن حكومتها.
تبدّلت قواعد اللعبة في المنطقة. تعتبر السعودية، وصونا لأمنها وأمن منطقة الخليج، أن المواجهة ضد إيران وامتداداتها باتت ضرورة استراتيجية. تبدلت قواعد اللعبة ولم يعد جائزا وفق ذلك القبول بالحالة التي يمثلها حزب الله في لبنان كما في سوريا كما في اليمن. ولئن تعتبر طهران لبنان واحدا من ساحاتها فلن تسمح الرياض بأن يكون حليفها سعد الحريري شاهد زور على واقع لم يقبله تيار المستقبل قبل ذلك، وأمعن في رفضه حتى حين احتل حزب الله العاصمة ومناطق أخرى في غزوة 7 ايار الشهيرة.
عاد الحريري وعاد سلاح ودور حزب الله ليكون شأنا لبنانيا يخضع لنقاش يستدعي ربما من جديد “طاولة حوار” أودعتها شروط التسوية الرئاسية في مخازن خلفية. استفاق اللبنانيون على وقع استقالة الحريري، ومن شكك بظروفها أعاد الاستفاقة على بيان وزراء الخارجية العرب الصادم الحاسم.
حزب الله حزبٌ لبناني الهوية حتى لو أعلن أمينه العام الولاء الكامل للولي الفقيه في إيران. وعليه فإن بيروت تتحمل مسؤولية الأذى الذي يوقعه الحزب بدول يفترض أنها شقيقة للبنان ولم يظهر منها تاريخيا إلا الودّ والدعم والصداقة والإخاء لهذا البلد. الحزب متورط في أعمال عدائية ضد الكويت والبحرين والسعودية واليمن.. إلخ، وعلى لبنان اتخاذ الموقف الذي يتّسق مع منطق كونه بلدا له التزاماته داخل جامعة الدول العربية والمجتمع الدولي وليس راعيا لميليشيا تعمل وفق منطق الميليشيا.
يدرك حزب الله جيدا حجم الضرر الذي أحدثته استقالة سعد الحريري على “دولة حزب الله”. كانت لافتة استدارة الحزب باتجاه ودّ مفرط تجاه الرجل المستقيل لا يشبه ذلك الكره الذي كان خلف طرده من الحكومة ومن البلد عام 2011 ليبقى منفيا في السعودية لخمس سنوات.
عاد الحريري إلى لبنان محصّناً بموقف أطلقه من الرياض وبموقف بيان النظام السياسي العربي برمته في القاهرة التي زارها استقواء واسترشادا، وبموقف دولي عبرت عنه باريس بالتنسيق الكامل مع واشنطن. يعبّر “تريث” الحريري عن حاجة لبنانية محلية لا يخفيها الممانعون قبل غيرهم، لكن ذلك “التريث” هو صيغة توافقت عليها العواصم لمنع أيّ انفجار لبناني يشوّش على الورشة الكبرى التي يقودها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاجتراح التسوية السورية.
أسقط الحريري محرم المس بسلاح حزب الله. عاد الأمر ليكون لبّ المعضلة، وبات نقاش أمره جدياً لدى عواصم القرار الكبرى إلى درجة استدعت إعلانا من الحرس الثوري في إيران أن “نزع سلاح حزب الله غير قابل للتفاوض”.
لا يمكن تصور أن حزب الله سيستجيب للشروط التي ذكرها الحريري للعودة عن استقالته. ومن الصعب تخيّل أن طهران وهي في قمة حملتها ضد الرياض جاهزة للإيحاء بمرونة ما في لبنان.
يعلم الحريري ذلك ويدرك أن نقاش مصير الحزب يجري في كواليس بعيدة عن “بيت الوسط” الذي تجمهر حوله مناصروه مرحبين بزعامته وعودته. ما يريده الرجل هو أن يلتزم لبنان الدولة بمبدأ النأي بالنفس لإنقاذ البلد من شرور ميليشياته.
سيأخذ رئيس الجمهورية علماً بالقواعد الجديدة، وهي قواعد تبلّغها صهره وزير الخارجية جبران باسيل من كافة العواصم التي زارها. عودة الحريري مهتمها إسقاط “دولة حزب الله”، من خلال الإجهار أن التماهي بين الدولة والدويلة لم يعد ساريا.
يخلّص انتقال الحريري إلى باريس قبل عودته إلى لبنان المسألة اللبنانية من نزاع حصري بين طهران والرياض. بات للأزمة بعدٌ دولي تمثله فرنسا، وباتت لرئيسها إيمانويل ماكرون شخصيا رهانات في الاستثمار مجددا بشخص الحريري من أجل طموحات باريسية تتجاوز حدود لبنان. أعادت السعودية وفرنسا ومصر وما يمثلونه في العالم منح الحريري غطاء يحصّنه من مطبّات الزواريب اللبنانية. بدا قبل ذلك أن باريس دوّلت حضور الحريري رداً على من أراد في بيروت تدويل غيابه.