كتب خالد غزال في صحيفة “الحياة”:
ليس من المغالاة القول إن استقالة رئيس الحكومة اللبنانية (قبل التريث) أتت تعبيراً عن المأزق الذي وصل إليه النظام السياسي الذي تشكل خلال اتفاق الطائف 1989. كان هذا النظام، الذي كرس المحاصصة الطائفية آنذاك، قد بدأ يلفظ أنفاسه منذ سنوات، لعل أبلغ التعبيرات عن هذا الانهيار ما حصل في ممارسة مؤسساته الدستورية، سواء على مستوى انتخاب رئيس للبلاد، أو في المعاناة الطويلة لإنتاج كل حكومة، أو في الطبقة السياسية– الطائفية الفاسدة في شكل مريع، والتي أوصلت البلد إلى ما يشبه الخراب. لم يكن ينقص كل هذه الموبقات سوى المس بقواعد الميثاق اللبناني التي أكدت على عدم الانجرار إلى محاور إقليمية ودخول لبنان في الصراعات العربية– العربية، أو الصراعات العربية– الإقليمية.
كانت التسوية التي قامت قبل عام وأتت بميشال عون وسعد الحريري إلى السلطة محاولة لتجديد وإنقاذ ما يمكن من النظام الذي أتى به الطائف. كانت التسوية ملغومة من الأساس، وغلب عليها منطق المحاصصة والصفقات، مقابل غض النظر عن القضايا الجوهرية في موقع لبنان العربي والنأي بالنفس عن الصراعات الدائرة. كانت التسوية تحمل في طياتها اختلالاً في ميزان القوى الداخلي الطائفي، وهو أمر لم يكن موجوداً في 1989. من المعروف، أن لبنان يهتز نظامه وكيانه أحياناً في كل محطة تشعر فيها إحدى طوائفه الرئيسية باختلال ميزان القوى، بما يسمح لها بطرح مطالب تعدل في النظام والتركيبة السياسية لمصلحة هذه الطائفة. ذلك هو تاريخ الحروب الأهلية منذ الاستقلال، وما نتج منها في كل مرة من إعادة بناء النظام وفق تسوية جديدة. ولم تكن تلك التسويات حصيلة حوار سلمي داخلي، بل محصلة انفجار عنفي، ما عدا تلك التسوية اليتيمة التي حصلت قبل عام.
تختلف الأزمة اللبنانية اليوم عن سابقاتها، كما تختلف الاستقالة الراهنة عن استقالات سبقتها. انفجر النظام اللبناني اليوم، تحت وطأة سياسة التحالف الحاكم داخلياً من جهة، وانفجر بحدة نتيجة الصراعات العربية- الإقليمية، خصوصاً مع إيران من جهة أخرى. لم يحصل في التاريخ اللبناني هذا الاصطفاف الطائفي المرتبط بمحور خارجي غير عربي. لو كان الأمر مقتصراً على ولاءات سياسية لكان يقع في حق كل طرف أن تكون له تعبيراته والتزاماته الخاصة. لكن المسألة تعدت إلى تدخل قوى لبنانية في الصراعات، وبالقتال إلى جانب أنظمة سياسية، والإعلان الصريح عن الالتحاق بالمحور الإيراني قولاً وعملاً. بدا كأن التسوية السياسية أتت لتحل معضلة الفراغ الدستوري، وتشرّع الدخول في الصراعات الإقليمية والعربية، ضاربة عرض الحائط بكل الادعاءات عن الحياد والنأي بالنفس.
إذا كانت التسوية قد تصدعت بفعل ممارسات أهل الحكم الداخلية، فإنها انفجرت تحت وطأة الصراع العربي- الإقليمي، خصوصاً مع إيران. لكن السؤال الذي يخيف اللبنانيين اليوم عن إمكان لتجديد التسوية ومعها النظام الطائفي وفق شروط جديدة؟ هذا هو محور الوضع السياسي اللبناني اليوم.
بداية، لا بد من القول إن الوضع اللبناني لم يعد داخلياً، وإذا كان الأمر غير جديد في هذا المجال، إلا أن حجم القبضة الدولية والإقليمية لا سابق لها في تاريخ لبنان. وإذا أردنا البحث في تسوية على غرار «الطائف»، فيجب إدراك اختلاف الظروف والقوى في شكل جذري. مطلع التسعينات، كان لبنان محتضناً من قوى عربية وإقليمية، تسعى بكل جهدها لإنهاء الحرب الأهلية، وعودة المؤسسات الدستورية. هذا الغطاء العربي اليوم لا وجود له، بل على العكس، يقف لبنان في عين عاصفة التناقض العربي- الإيراني، في مرحلة من التصعيد السياسي والمفتوح على احتمالات عسكرية. لعل قرارات الجامعة العربية الأخيرة حول تصنيف حزب الله منظمة إرهابية، وما رافقها من إشارات صريحة إلى مسؤولية الدولة اللبنانية في رعاية الإرهاب، مؤشرات مقلقة حول الوضع المقبل للبنان. فمن سيقوم بمهمة إنجاز مثل هذه التسوية؟
وإذا كان من شروط التسوية كما هو مطروح في بيان استقالة الرئيس الحريري هو النأي بالنفس والبحث في مصير سلاح حزب الله، فالسؤال للحزب، هل هو على استعداد لهذا الموضوع، بل وهل هو قادر على الذهاب به إلى النهاية من دون قرار إيراني؟ من الصعب الجواب إيجاباً، فالأمور أعقد بكثير.
منذ سنوات، يدور كلام من قوى طائفية عن ضرورة عقد مؤتمر تأسيسي يعيد إنتاج نظام سياسي جديد. لم يكن الكلام هذا يصدر جزافاً، قد كان يعبر عن ميزان قوى طائفي جديد لم يعد النظام القائم يناسب وزن هذه القوى. فهل يقف لبنان على أعتاب أزمة مفتوحة، يختلط فيه السياسي بالأمني، من أجل الوصول إلى تسوية؟ وهل ستكون المنطقة أمام تصاعد الصراع العربي- الإيراني، الذي سيتأثر به لبنان سلباً، أم ستنفتح آفاق التهدئة، فيحصد لبنان تسوية متجددة سلمياً؟ الاحتمالان متساويان. الثابت أن لبنان سيبقى في أزمة مفتوحة إلى أمد غير معروف.