كتب محمد وهبة في “الأخبار”:
كشفت الإجراءات المتخذة لمواجهة الطلب على الدولار، في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، هشاشة بنية النظام المالي في لبنان. إذ أدّت إلى رفع أسعار الفائدة بشكل جنوني ما سيرتّب أعباء كبيرة على الاقتصاد وعلى الدين العام. ارتفاع سعر الفائدة على الليرة بمعدل 2%، سيرفع نسبة الدين إلى 200% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا مسار كارثي!
أصدرت جمعية المصارف، في 21 تشرين الثاني الجاري، تعميماً يرفع أسعار الفائدة المرجعية في سوق بيروت، وينص على الآتي: «في ضوء التطورات الحاصلة في سوق الفائدة وكلفة الودائع، قرّر مجلس إدارة الجمعية توصية المصارف الأعضاء بإضافة مئتي نقطة أساس على المعدل المعمول به بدءاً من مطلع كانون الأول 2017، بحيث يصبح معدل الفائدة المرجعية لليرة اللبنانية في سوق بيروت، 10.65% بدلاً من 8.65% (…) هذه المعدلات تشكل قاعدة لاحتساب الفوائد المدينة بعد إضافة نوعية مخاطر الائتمان والربحية بالنسبة للتسليفات والقروض بالدولار وبالليرة اللبنانية».
الترجمة العملية لهذا التعميم جاءت على النحو الآتي: رفعت المصارف أسعار الفائدة على الودائع بالليرة بمعدل 2%؛ وأسعار الفائدة على القروض بالليرة بمعدل 2%؛ وقرّر بعض المصارف التوقف عن تسليف زبائن التجزئة بالليرة وتحويلها إلى تسليفات الدولار؛ كما قرّر بعض المصارف رفع أسعار الفائدة على الدولار بمعدل 1%.
اتفاق على رفع الفائدة
يأتي هذا التعميم في إطار اتفاق بين مجلس إدارة جمعية المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في اللقاء الشهري الأخير بينهما، على أن ترفع المصارف أسعار الفوائد على الودائع بالليرة لإغراء الزبائن وثنيهم عن تحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار، مقابل حصولها على دعم للفوائد من «المركزي». وطلب سلامة من المصارف مراجعة مديرية العمليات المالية في «المركزي» للاطلاع على جدول الدعم وآلياته. وبحسب مصادر مصرفية، فإن الدعم كان مقسماً على شرائح مختلفة تبعاً لفترة تجميد الوديعة، إلا أنه في المجمل يغطّي ما يراوح بين 2% و3% من الكلفة الإضافية التي تدفعها المصارف للزبائن.
المصارف نفذت جانبها من الاتفاق ورفعت أسعار الفوائد وأصدرت التعميم مساء 21 تشرين الثاني، أي بعد انتهاء اللقاء مباشرة، ولم يكن في حسبانها أن يتراجع سلامة عن الاتفاق. إذ أنها فوجئت، لدى مراجعة مديرية العمليات المالية في الأيام الأخيرة، أن «المركزي» لن يغطّي الكلفة الإضافية لزيادة الفوائد على الودائع بالليرة بأكثر من 0.3%، بعدما عاد الطلب على الدولار إلى مستوياته الطبيعية، وباتت سوق القطع أكثر عقلانية في التعاطي مع الأزمة، وبالتالي لا لزوم للكلفة الكبيرة التي سيرتّبها الدعم على ميزانية «المركزي»، ولا سيما أن مصرف لبنان اتخذ إجراءات للتخفيف من نقص السيولة الحاد لدى المصارف، وسمح لها بالحصول على سيولة بالليرة من محفظته مقابل تجديد توظيف ودائعها بالدولار لديه.
سلامة يشجّع
عملياً، تثير هذه الوقائع الريبة حول اتفاق ضمني بين سلامة والمصارف على رفع أسعار الفائدة بشكل دائم وليس مؤقتاً. فمن الواضح أن ارتفاع أسعار الفائدة على الودائع بالليرة، سيدفع المصارف إلى رفع أسعار الفوائد على التسليفات لتغطية كلفتها الإضافية. ومع أن الحاكم يعرف ذلك جيداً، فإنه لم يشر في أي وقت من الأوقات الى رفع مؤقت للفائدة، إذ ورد في محضر اللقاء الشهري ما حرفيته «شجع الحاكم المصارف على توسيع هوامش الفوائد بين الليرة والدولار»، وهذا مؤشر واضح على أن الهدف من رفع الفائدة إعادة التوازن إلى الهوامش بين الليرة والدولار استناداً إلى ما حصل قبل الأزمة بأشهر، عندما انطلق سباق بين المصارف على استقطاب الودائع بالدولار للغَرف من الارباح التي يقدّمها مصرف لبنان من الهندسات المالية. فبعض المصارف كان يدفع فائدة سنوية على الودائع بالدولار تصل إلى 7% رغم أن الفائدة على الليرة لم تكن تتجاوز 8% للودائع المجمّدة على سنتين. وهدف المصارف كان الاستفادة من تسهيلات بالليرة اللبنانية بفائدة 2% في مقابل إيداعات بالدولار طويلة الأجل لدى مصرف لبنان، شرط أن تُستخدم التسهيلات في شراء سندات خزينة بالليرة. علماً بأنه سبق أن نفذ مصرف لبنان هندسة في 2016 أتاحت للمصارف تسييل سندات خزينة وتحقيق أرباح بنسبة 38%. المصارف تعاملت مع التراجع المفاجئ في قرار سلامة على أنه تغيير في طريقة العمل بهدف نسف الحجج التي أخذت ضدّه يوم معركة التجديد له في حاكمية مصرف لبنان، وأنها تدفع ثمن هذا التجديد من خلال تدفيعها كلفة الاستقرار النقدي بعد «سخاء» سلامة عليها في السنتين السابقتين.
أزمة النظام: هندسات مالية
من الواضح أن هذه الأزمة كشفت مكامن هشاشة النظام المالي. إذ أن الارتباط العضوي المباشر بين هندسات مصرف لبنان خلال السنتين الماضيتين، وبين أزمة النقص الحاد في السيولة بالليرة، يفتح الباب أمام الكثير من الشكوك حول استدامة هذا النظام وقدرته على صدّ أي أزمات مقبلة.
العودة إلى النقاش في اللقاء الشهري تكشف عن هذه الهشاشة. يومها كان استمرار الطلب على الدولار للأسبوع الثالث، بعد أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري واحتجازه في السعودية، محور النقاش. وأعطيت الأولوية القصوى لمواجهة هذا الطلب، لكنها اصطدمت بعدم قدرة المصارف على تكييف عملياتها مع إجراءات «المركزي» التي تضمنت «منع تحريك الحسابات المجمدة قبل فترة الاستحقاق، الدفع الفوري لشراء الدولارات من مصرف لبنان، امتناع مصرف لبنان عن حسم السندات بالليرة». وبنتيجة هذه الإجراءات، تبيّن أن هناك نقصاً حاداً في السيولة سببه السلوك المتهور للمصارف التي وظّفت 80% من ودائعها بالليرة بهدف الانخراط في الهندسات المالية. وفي النتيجة، لم تعد لديها سيولة كافية بالليرة لتلبية طلبات الزبائن ورغبتهم في تحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار عند استحقاق أجلها، وبدأت تطلب السيولة من المصارف التي تملكها. أما المصارف التي تحمل في محفظتها سيولة إضافية، فعمدت إلى إقراضها لمصارف أخرى بفائدة (تسمى فائدة انتربنك) وصلت إلى 120% بعدما كانت 4%.
وإزاء استمرار الطلب على الدولار ووجود نقص حاد في السيولة، لجأت المصارف، بالاتفاق مع مصرف لبنان، إلى رفع أسعار الفائدة. إلا أنه سرعان ما تبيّن أن هذه الفرصة مؤاتية لإعادة التوازن للهامش بين الفائدة على الليرة والدولار.
الدين العام vs كسب الوقت
هكذا ارتفعت أسعار الفوائد في لبنان، فما هي نتائج هذه الخطوة؟
هناك نوعان من النتائج تترتب على القطاعين العام والخاص. ففي ما يتعلق بالقطاع العام، المعروف أن لدى المصارف محفظة كبيرة من التوظيفات بالليرة في سندات الخزينة. وبحسب إحصاءات جمعية مصارف لبنان، تبلغ قيمة محفظة السندات بالليرة 72856 مليار ليرة، تحمل المصارف منها 34,5%، فيما يحمل مصرف لبنان 50% والقطاع غير المصرفي 15,5%.
بعد رفع الفوائد بمعدل 2%، وفقاً لتعميم جمعية المصارف، ستزيد كلفة الدين العام إلى حدود خطيرة جداً. ووفق مصادر معنية، فإن الاحتساب الأولي لهذه الكلفة، والذي يأخذ في الاعتبار أن مصرف لبنان سيكتتب بسندات الخزينة بقيمة 3000 مليار ليرة بفائدة 1%، سيجعل تسارع وتيرة الدين خلال السنوات المقبلة مقلقاً وكارثياً. إذ قد ترتفع نسبة الدين إلى 200% من الناتج المحلي الإجمالي في ظل احتمال ارتفاع أسعار النفط إلى 70 دولاراً للبرميل وحدوث نمو اقتصادي يصل إلى 3%.
وتلفت المصادر إلى أن رفع أسعار الفائدة خطوة كان مصرف لبنان يحاول تفاديها طوال الوقت نظراً لتداعياتها. لكن الأزمة أظهرت القيمة الحقيقية لليرة اللبنانية «الضعيفة» ما دفع «المركزي» إلى اتخاذ قرار بإعادة التوازن إلى الهامش بين الفائدة على الليرة والفائدة على الدولار أملاً في كسب المزيد من الوقت.
من يتحمّل الأعباء؟
أما بالنسبة إلى النتائج على القطاع الخاص، فالأسعار المرتفعة للفوائد على الليرة والدولار سترتب أعباء هائلة على الاقتصاد. إذ أن المصارف ترفع الفائدة على الوديعة، وتعوّض كلفتها برفع أسعار الفائدة على القروض للمؤسسات، وهذه الأخيرة تحمّل الكلفة الإضافية في ديونها على السلع التي تبيعها، ما سيرفع تلقائياً الأسعار وسيشكّل حافزاً لارتفاع التضخّم والتهرّب الضريبي. لكن المشكلة الأساسية أن التحكّم بأسعار الفائدة يستعمل لكبح التضخّم. إذ من المعروف عالمياً، في الأنظمة الليبرالية، أن رفع الفائدة يخفّف من استدانة المؤسسات ما يقلّص وطأة تضخّم الأسعار. ولكن في لبنان، استعملت الفائدة كأداة للسياسة النقدية لاستقطاب الدولارات ولكبح الطلب على التحويل من الليرة إلى الدولار، وبالتالي لا شيء يمنع من أن يتحمل الزبون كلفة الاستدانة. وإلى ذلك، تكمن المشكلة أيضاً في أن رفع الفوائد يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، المتدهور أصلاً. وبالتالي فإن وقع رفع أسعار الفائدة على الاقتصاد سيكون خطيراً.
وهناك ظاهرة خطيرة أيضاً تتعلق بوقف المصارف عن التسليف بالليرة واللجوء إلى تعزيز تسليفاتها بالدولار. فهذه الخطوة ستنقل مخاطر الاستدانة بالعملة الأجنبية إلى المؤسسات التي قد تحمّل الزبائن أيضاً فرق الاسعار بين استيرادها بالدولار ومبيعاتها في السوق المحلية بالليرة.
والخطير، أيضاً وأيضاً، أن الاتفاق بين المصارف ــــ في الاجتماع الذي عقد بعد انعقاد اللقاء الشهري في مصرف لبنان ــــ على رفع أسعار الفائدة على القروض بالليرة، باعتبار أن محفظة قروض التجزئة تشكّل 15% من مجمل القروض بالليرة، لم يأخذ في الاعتبار أن مصارف أخرى ستعمد إلى رفع الفائدة على القروض بالدولار أيضاً.
69 مليار دولار تسليفات
تشير الإحصاءات إلى أن مجمل تسليفات المصارف للقطاع الخاص تبلغ في نهاية أيلول 2017 نحو 69 مليار دولار، منها 17,4 مليار دولار تسليفات للقطاع الخاص المقيم بالليرة اللبنانية، و35,4 مليار دولار تسليفات للقطاع الخاص المقيم بالدولار، و5,88 مليار دولار تسليفات للقطاع الخاص غير المقيم بالدولار، و10,14 مليار دولار تسليفات للقطاع الخاص المالي غير المقيم بالدولار.
وتتوزّع التسليفات قطاعياً على النحو الآتي: 32,8% للتجارة، 30,9% للأفراد، 17,5% للإنشاءات والمقاولات، 9,9% للصناعة، 5,1% للقطاع المالي، 1,2% للزراعة، 2,6% مختلف.
وتظهر الإحصاءات أن وتيرة نمو هذه التسليفات، شهرياً، على النحو الآتي: ارتفعت التسليفات بالليرة في أيلول 2017 بنسبة 16.5% مقارنة مع 9.7% في تموز 2016 (في وقت تنفيذ الهندسات المالية). وانخفضت التسليفات بالدولار إلى 1.1% مقارنة مع 5.3%. والنسبة الأكبر من نمو التسليفات كانت من حصّة قطاع الأفراد الذي بلغ نموّه 3.3%، يليه قطاع التجارة بنسبة 1.9%.