كتب الدكتور جورج شبلي
(في موسِم خَنق الأَحلاق)
الظاهرة الصحيّة في الدول الديمقراطية تبدو في غلبة حرية التعبير على اسلوب المتلطّين خلف فائض القوة ، أو ما يعني تفوّق الكلمة على ذهنيّة الأوصياء واجترار الأجندات المشبوهة. ذلك لأنّ النظام الديمقراطي يتمدمك على الحريّات وفي طليعتها حريّة الرأي . فالإنسان الذي يفقد حريّة المجاهرة بما يريد، هو الانسان المكبّل بالخوف، أو الكائن البيولوجي الذي يؤدّي تماما ما يستطيعه غيره من الكائنات الحيّة دون زيادة أو نقصان. فما الفائدة اذا من تمتّع الانسان بالعقل والرويّة والقدرة على اتخاذ القرارات والمواقف؟
في الدول ذات النظام الديمقراطي، لكل واحد الحق في إبداء رأيه. ويمكن للآراء أن تختلف وتتباين، أي أن يكون رأي البعض مغايرا لرأي البعض الآخر. وهذا يعني أنّ كل واحد من الناس يمكنه إسماع صوته مهما علت طبقة هذا الصوت أو انخفضت. ومن السذاجة القبول بمهندس للصوت يعمل على تعديل الطبقات لتصبح في النهاية طبقة واحدة مملّة تتكرّر.
انّ ما نسمعه هذه الأيّام من أفواه المتسلّطين على النّاس، يذكّرنا بالعصر الستاليني الآحادي النبرة . فعندما يستخدم بعض المستقوين عبارات نافرة من مثل ” نحن نعرف فقط “، وعندما يكرّر المتلطّي بالمستقوين قوله “أنا أو لا أحد”، فهذه أشارة الى أنّ على الغير، كل الغير، ألتزام السكوت وقول ” أمرك سيدنا” . وذاك مؤشّر كبير الخطورة على معادلة الرأي والرأي الآخر ، وتهديد صارخ لقاعدة الحرية المصانة بالدستور. وتكمن الخشية على هذا المستوى، إن تذرّعنا بالصمت، في أن يتبنّى المستقوي أسلوب رجال الصدر الأعظم خلال العصر العثماني البائد، والذين كانوا يزورون ليلا معارضي سياسة الحكم القمعي ويقولون للواحد منهم “أجب، شفيق يدعوك”، وشفيق كان القابض على زمام الأمن آنذاك. وقد أختفت آثار المعارضين لسنين ،حتى كشف قعر البوسفور حقيقة وحشية الظلم ، جثثا مرميّة في اللّجّة، وقد صبّت أرجلها في مكعّبات من الباطون لتثقيلها .
بعد العام 2005، اعتاد اللبنانيّون خطابا ذا مساحة واسعة من الحرية، كان نتيجة حتميّة لأنحسار عصر الوصاية، واندحار موجة القمع والأحكام الجائرة بكمّ الأفواه والعقول. ويُخشى اليوم، أن نشهد نهاية لهذه الحال الفريدة، بعودة وصاية من لون آخر تفرض نهجا الزاميا كالزيّ الموحّد، يتجمّد معه الفكر، وتختزل العناوين بعنوان واحد، وينوب رأي عن جميع الآراء. وهكذا تزول حصانة الحرية، وتتمدّد مواسم السجّانين ليعمّ اليباس الألسنة، وتختفي مظاهر التعافي التي أدخلت الى رئتي الوطن بلسم الشفاء من “الردع”. وكأنّ الممانعين يريدون قتل مباراةٍ، جرت المواجهة فيها بين الحرية والترهيب، وكادت الحرية أن تحرز انتصارا مدوّيا لولا الصفرة الأنقلابية التي طردت الحرية من الملعب .
ويبقى السؤال: هل لا زالت الحرّيات تعني شيئا عندنا؟ أم يجري العمل على نشر وباء خبيث يصيب الفكر، وهو العقم والفراغ ؟ أمام محاولة ردّنا الى قرون الظلام، وإجبارنا على الانفصال عن ترانيم الحرية، نجد البعض منّا يبكي. واذا كان البكاء ضروريا غير أنّه ليس حلاّ . فالحل هو في قولة : لا . هذه ال”لا” المجيدة التي ترادف الكرامة هي كشجرة الزيتون، لا تنمو بسرعة لكنّها تعيش طويلا.