كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
القطبُ الذي كان ناقصاً في كليمنصو، بل المستهدَف من اللقاء، هو رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. فبري وجنبلاط كانا منزعجَين من السلوك «الهجومي» الذي يعتمده رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل في مجلس الوزراء، ومن العلاقة «الإيجابية فوق اللزوم» بينه وبين الحريري، والتفاهم على المصالح المشترَكة.
كان الحريري، قبل لقاء كليمنصو، يتقرّب من «التيار» ويبتعد عن الحليفين القديمين بري وجنبلاط. فجاء «اللقاء الثلاثي» في ضيافة جنبلاط ليعيدَه إلى مكانه. فالجميع كان يخشى «فائض القوة» الذي يمكن أن يكتسبَه عون ورجالُه في السلطة، نتيجة التطبيع المتسارع مع دمشق الأسد.
لكنّ الدور القوي الذي اضطّلع به عون- بتغطية بري وجنبلاط و»حزب الله»- في إخراج الحريري من مأزق «الاستقالة»، أعاد الحرارة السابقة إلى العلاقات بينهما. لكنّ المفارقة هي أنّ عودة الحرارة تمّت هذه المرّة بدعم بري وجنبلاط و«الحزب».
فمن معجزات «المصيبة» الأخيرة أنها جمعت بين الحريري والآخرين (عملياً فريق 8 آذار وجنبلاط). لكنّ العاصفة تركت آثارها على فريق 14 آذار، وتحديداً على العلاقات ما بين تيار «المستقبل» و«القوات اللبنانية» والكتائب، وعلى النهج السياسي الذي سيعتمده كلٌّ من هذه القوى في المرحلة المقبلة.
لقد باتت أولويّة «المستقبل» في أيِّ استحقاقٍ مقبل، أن يتحالف مع القوى النافذة في السلطة. فهو وقع في أحضانها بعدما تولّت هي عملية إنقاذه من الورطة الأخيرة. فيما كان موقفُ بعض الأركان من داخل التيار ومن الحلفاء في 14 آذار داعماً للخطوة السعودية علناً. وهذا ما يعتبره الحريري عاملاً سلبياً، لأنه وفَّر الغطاء الداخلي للمأزق الخارجي، ومن صلب بيئته الحليفة.
ولذلك، يتعرّض الحريري للتشجيع، من قوى 8 آذار، لحسم موقفه سواءٌ داخل الطائفة السنّية أو داخل «المستقبل» أو داخل 14 آذار. وهو يتعرّض لإغراءات عدة في مقابل قيامه بذلك: التعاون معه إلى الحدّ الأقصى في مجلس الوزراء وحمايته وتأمين المصالح التي يسعى إليها، ودعمه كزعيم للسنّة لا منازع له، حتى إشعار آخر. ويعني ذلك إبقاء الحلفاء السنّة التقليديين لـ8 آذار في وضعيّة بعيدة عن إزعاجه.
ويعني هذا الدعم طبعاً المساهمة في تركيب التحالفات الانتخابية على أساس أنّ «المستقبل» هو الشريك الوحيد الذي يتمّ التحالف معه، من خارج قوى 8 آذار. وترجمة ذلك هي أنّ الحريري لا يتحالف مع «القوات» انتخابياً، ويكون أقرب إلى «التيار الوطني الحر» في كل الدوائر التي يتحالف فيها «المستقبل» مع قوى مسيحية، وهي كثيرة، وأبرزها صيدا – جزين، الشوف، بيروت، زحلة، وطرابلس والكورة وعكار.
عملياً، سيؤدّي ذلك إلى تقوية الحريري، ولكن في موقعه السياسي الحالي، ضمن مفهوم التسوية السائد. لكنه سيؤدّي إلى إضعاف حلفائه (السابقين) في 14 آذار (السابقة). فـ»حزب الله» وحلفاؤه سيضعون ثقلهم ليخوض الحريري انتخاباتٍ نيابية ناجحة في مواجهة قوى عدة: اللواء أشرف ريفي، «القوات»، الكتائب…
لكنّ الأبرز هو أنّ تحوّلاتٍ ستحدث داخل «المستقبل» أيضاً. وعلى الأرجح سيلقى الحريري تشجيعاً قوياً من جانب «حلفائه الجدد» لعزل الكوادر والقوى المعترضة على النهج الحريري «المتراخي» أمام «حزب الله». وهناك رموزٌ اعْتراضية معروفة ولها مواقع أساسية، بل تاريخية في مسيرة «التيار» منذ عهد الرئيس رفيق الحريري.
فهذه القوى أظهرت إخلاصاً قوياً للحريري في المحنة الأخيرة مقابل الأصوات التي دعت إلى استبداله بقيادة جديدة، وهذا الأمر يقدّره رئيس الحكومة جيداً. لكنّ هذه القوى بقيت ترفع الصوت اعتراضاً على «نهجه التراجعي» في التعاطي مع «حزب الله». وتالياً هي تبدي تفهّماً للموقف السعودي المتشدِّد.
سيكون على الحريري في المرحلة المقبلة أن يختار: أيضع هذه القوى عند حدِّها سياسياً، من دون عزلها عن «المستقبل»؟ أم يقوم بخطوة العزل بتشجيع من 8 آذار؟
وهل يقتنع بالتخلّي عن «القوات اللبنانية» تحت وطأة التحريض عليها بأنها كانت تخونه في السعودية رغم لجوئها أخيراً إلى المرونة و«اقتناعها» ببيان النأي بالنفس الصادر عن مجلس الوزراء، تجنّباً لبلوغ الحائط المسدود والانعزال السياسي؟ أم يعود إلى «التوازن» في المسافة بينها وبين «التيار الوطني الحر» و»المردة» وسواهما من القوى المسيحية؟ وهل يساهم في التضحية بحليفه السابق حزب الكتائب الموجود أساساً خارج السلطة؟
أيّاً تكن خيارات الحريري، فالواضح أنّ العاصفة خلَّفت أضراراً هائلة في فريق 14 آذار: في العلاقات بين مكوِّناته والعلاقات داخل كل منها. وتوحي قساوة المعركة الحالية بأنها مصيرية إلى حدٍّ ما، بالنسبة إلى إمكان الاحتفاظ بالحدّ الأدنى من روابط 14 آذار.
المسألة تتوقف على خيار الحريري. وهذا الخيار يتوقف على مستقبل النزاع بين المحاور الإقليمية على الساحة الداخلية. ولكن، في أيِّ حال، أمام الحريري أن يفكِّر جيداً قبل أن يتّخذ القرار: إذا وقع تماماً في أَسْرِ التحالف الجديد، وحيداً، فبمن يستقوي عند أوّل سوء تفاهم؟