فعدا الموقف العربي الجامع والذي اضطُر الى مجاراته عدد من الدول العربية التي ترتبط بعلاقات قوية، وربما أكثر، بالبيت الأبيض، كما المقاطعة الواسعة لزيارة نائب الرئيس الأميركي الى المنطقة فإنّ خمس دول اوروبية منضوية في مجلس الأمن اعتبرت السياسة الأميركية الجديدة متناقضةً مع قراراتٍ اتُخذت سابقاً.
حتى على مستوى الداخل الأميركي نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» معارضة تسعة سفراء أميركيين سابقين من أصل 11 سفيراً في إسرائيل قرار ترامب. أحد هؤلاء، وربما الاكثر شهرةً بينهم، دان شابيرو، استغرب موقفَ ترامب واصفاً إيّاه بالقرار المتهوّر كونه سيقضي على الدور الأميركي كوسيطٍ للعملية السلميّة الإسرائيلية الفلسطينية، وأنه، على الاقل، كان على ترامب أن لا يعتمد السياسة المجانية، أي أن يطلبَ شيئاً في المقابل من إسرائيل كمثل وقف الاستيطان في الضفة الغربية.
ولكن بدا أنّ ترامب المحاصَر بأزمته الداخلية والتي أضحت داخل مكتبه البيضاوي، وجد نفسَه في حاجةٍ ماسّة الى حبل النجاة الإسرائيلي لاعتقاده أنه قادر على إنقاذه من الغرق.
وبات ثابتاً بالنسبة الى الأوساط الديبلوماسية أنّ مَن وضع خطة الاعتراف بالقدس والخطوات التي ستلي ذلك كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتابعها السفير الإسرائيلي في واشنطن رون ريرمن بالتشاور مع اللوبي اليهودي الفاعل في الولايات المتحدة الأميركية وأنّ الرئيس الأميركي وافق عليه كما هو مشترطاً مسألة وحيدة وهي عدم قيام الحكومة الإسرائيلية بأيّ احتفالات بعد حصول الإعلان تجنّباً لإثارة المشاعر ودفع الامور في اتّجاه التأزيم.
وبالفعل تحدّثت أوساط ديبلوماسية أوروبية عن أنّ الخطوة التالية التي ستنفّدها الحكومة الإسرائيلية ستكون الترخيص لبناء 14 الف وحدة سكنية في القدس، ستة آلاف منها سيجري بناؤها في القدس الشرقية. والمشروع هنا لا يعني فقط رفع عدد الإسرائيليين بمقدار كبير في مساحة القدس بكاملها، ولكنه ايضاً سعيٌ وراء دفع الفلسطينيين الى ترك منازلهم والرحيل الى أماكن اخرى وربما الهجرة النهائية.
وفيما باشرت السفارة الأميركية في إسرائيل البحث عن قطعة أرض ملائمة لتشييد البناء المطلوب وفق المواصفات الأمنيّة التي تشترط أن يكون البناء بعيداً من اقرب نقطة سكنيّة بمسافة عازلة لا تقلّ عن مئة متر، فإنّ الانطباع الذي بات موجوداً لدى معارضي هذه الخطوة هو أنّ اعتراف ترامب بالقدس جاء بمثابة طبع «قبلة الموت» على وجه العملية السلمية.
لكن وبخلاف الانطباع السائد فإنّ صهرَ الرئيس الأميركي جاريد كوشنر الذي يتولّى ملفّ التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين لإيجاد تسوية سلمية، اصطدم باللوبي اليهودي الأميركي المتحمّس للاستيلاء على القدس، حتى ولو أدّى ذلك الى موت التسوية السلمية.
فقبل أيام معدودة من إعلان ترامب قراره، ألقى كوشنر محاضرة في مركز «سابات» لسياسات الشرق الاوسط الذي يديره السفير مارتن اندك والتابع لمعهد «بروكنغز». وهذا المركز أسسه حاييم سابات وهو رجل أعمال أميركي يهودي من أصول تونسية.
هذه المحاضرة لم تكن مفتوحة للعموم ولا للنشر عبر وسائل الاعلام، وحضرها عدد من المسؤولين المهتمّين بقضايا الشرق الأوسط وإسرائيل. وتحدّث كوشنر عن تجربته في موضوع التسوية الإسرائيلية ـ الفلسطينية، والأفكار المطروحة والعقبات القائمة والإمكانية المطروحة لتحقيق تقدّمٍ في المفاوضات الجارية.
لكنّ اللافت أنّ كوشنر ما إن انتهى من محاضرته حتى طلب كبير مستشاري ترامب السابق وصاحب النظريات المتشدّدة ستيف باتون الكلام واتّهمه بالعودة الى «السياسة المائعة» التي كان باراك أوباما ينتهجها في الشرق الأوسط، كذلك تدخّل رئيس المنظمة الصهيونية الأميركية مورت كلاين متّهِماً كوشنر بأنه «بات متأثراً بأفكار لا تلائم الواقع الفعلي في الشرق الأوسط»، ومتسائلاً عمّا إذا كان يجب بقاء كوشنر وميسون غرينبلات في مسؤوليّتهما حول الملف الإسرائيلي أم لا.
تلك الواقعة التي تتناقلها أوساط ديبلوماسية أوروبية مطّلعة تؤشر الى التأثير المتعاظم الذي بات يحظى به اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة الأميركية، اضافة الى الأسماء الأميركية المعروفة بتشدّدها نتيجة الضغط الذي يعانيه ترامب جراء التحقيقات الدائرة حول تورّطه في اتّصالات مع روسيا خلال حملته الانتخابيّة.
لكنّ هذه الفوضى داخل أروقة القرار الأميركي، لا تبدو قريبة الانتهاء. وهو ما يعني تراجع اضافي للدور الأميركي في المنطقة في موازاة تمسّك إسرائيلي بما تمّ تحقيقُه والسير في المشروع الجديد قدُماً، او بمعنى آخر دفن مشاريع التسوية على اساس الدولتين، في مقابل رفع مستوى المواجهة الفلسطينية من خلال إطلاق انتفاضة ثالثة وسعي الدول المتضرّرة من السياسة الأميركية للاستفادة من المشكلات الحاصلة والعمل على تأجيجها.
وتأتي الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى القاهرة في هذا الإطار، حيث سيسعى لتثبيت الاتّفاق الروسي ـ المصري حول استخدام الطائرات الحربية الروسية المطارات المصرية في إطار الدور الروسي الجديد في منطقة الشرق الأوسط.
كذلك تأتي زيارة وزير الخارجية البريطانية لطهران، والتي تبدو غاية في الأهمية في هذه المرحلة، أولاً لأنها لم تتأجّل وسط الظروف الصعبة الحاصلة في الشرق الأوسط، وثانياً لأنّ لندن تسعى الى تخفيف التوتر الحاصل بين إيران والسعودية، خصوصاً وأنّ العاصمة البريطانية كانت قد استقبلت أخيراً اجتماعاً خُصّص للوضع في اليمن والسبل الآيلة لإيجاد تسوية للحرب الدائرة وهو الجرح الذي يؤلم الرياض كثيراً.
وخلال الاسبوع الفائت زار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما باريس وخلال احد لقاءاته سُئل عن مصير الاتّفاق النووي الذي عُقد أيام رئاسته مع إيران، واحتمالات أن تنسفه إدارة ترامب، فكان جوابه أنّ التصعيد السياسي الحاصل حول إيران غير قادر على ضرب الاتفاق النووي أو التأثير عليه. فالإتّفاق أكبر وأقوى من أن يستطيع أحد ضربه أو إسقاطه.
وهذا ما يعني حسب ديبلوماسيين فرنسيين أنّ التوتر الحاصل مع إيران لديه سقف ثابت غير قابل للاهتزاز أو الاختراق. ومن هذه الزاوية يمكن فهم التقدّم الحاصل في سوريا، والاقتراب من دخول باب التسوية السلمية حيث لإيران تأثير كبير.
وكذلك انعكاس كل ذلك على لبنان الذي مرّ في «قطوع» كبير وكانت المفاجأة أن شكّل «حزب الله» ومن خلفه إيران عامل استقرار لا تصعيد. كذلك في هذه الزاوية يمكن قراءة مرونة «حزب الله» في العراق وسوريا حيث أبدى أمينه العام السيد حسن نصرالله مرونةً في موضوع الانسحاب العسكري. وحتى في طريقة التعاطي مع قرار ترامب حول القدس حيث تحدّث ديبلوماسيون أميركيون عن الخطاب الذكي للسيد نصرالله والذي قارب المسائل بدهاء ووعي متجنّباً الأفخاخ الكثيرة المزروعة على الدرب.
لكنّ زيارة زعيم «عصائب أهل الحق» العراقية التابعة لـ»الحشد الشعبي» قيس الخزعلي للحدود اللبنانية بثياب عسكرية جاءت مناقِضة في معناها ومغزاها لخطاب السيد نصرالله. وبدت الاوساط نفسها متفاجئة فمِن الشيء ونقيضه، من الخطاب الذكي والزيارة التي تُعتبر خطأً فادحاً ليس في محله ومكانه.
وفي تفسيرها لذلك، اعبترت هذه الاوساط أنّ الهدف من هذه الزيارة غير مفهوم. فإما أنّ هنالك خطاً ثانياً أو فريقاً آخر داخل المجموعة نفسها يحمل سياسةً مختلفة أو مناقِضة لسياسة الأمين العام لـ«حزب الله»، أو أنّ ما حصل يأتي في اطار زيارة غير مسؤولة ولا خلفيات أو دلالات لها، بل فقط تصرّف آني وفوري وغير مخطَّط له، وهذا هو الارجح، إذ إن ليس مِن مصلحة «حزب الله» إحراج الرئيس سعد الحريري بعد كل ما حصل، أو حتى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.