كتب ابراهيم ناصرالدين في صحيفة “الديار”:
لماذا ارجأ رئيس الحكومة سعد الحريري «بق البحصة»؟ سؤال فرض نفسه على الاوساط السياسية بالامس بعد ان بدى الرجل «متحمسا» لاخراج ما يعتمل في صدره من «قهر» حيال من ظنهم يوما من «اهل البيت»..ولم يكن «زعيم المستقبل» موفقا خلال الاجابة غير المقنعة في مؤتمر «كارنيغي» حول اسباب التاجيل، فموعد المقابلة التلفزيونية كان محددا في 22 الجاري ولم يكن موعدا مفتوحا، كما قال الحريري، وبيان تعليل التأجيل كان واضحا لجهة القول ان الامر جاء نزولا عند رغبة رئيس الحكومة نفسه… ويبقى السؤال لماذا تراجع الحريري عن «فضح» بعض من خفايا تلك المرحلة؟ هل «اجتهد» فأخطأ بفعل «حماسة» مفرطة امام منسقية بيروت في تيار المستقبل؟ اين كان الخطأ في الحسابات؟ هل وظيفة التلويح «بفضح المستور» قد ادت وظيفتها، ولم يعد الظهور الاعلامي ذات معنى في هذا التوقيت؟ ام ان التراجع كان نتيجة نصيحة محلية اومن خارج الحدود؟
اوساط سياسية مطلعة على «اجواء» «بيت الوسط»، تؤكد ان كل هذه الاسباب مجتمعة كونت قناعة عند الحريري ودائرته المقربة، بضرورة التأجيل، مع العلم ان قرار اجراء المقابلة تحت عنوان «بق البحصة»، لم يعد مؤكدا في المدى المنظور، الا اذا طرأ ما يستدعي ذلك، لكن هذا لا يمنع ظهور رئيس الحكومة في مقابلة سياسية لا يكون عنوانها بالضرورة الكشف عن «كواليس» مرحلة الاستقالة وما تلاها من تطورات سياسية في البلاد انتهت بعودته الى رئاسة الحكومة…
وبحسب المعلومات، تلقى الحريري «نصيحة» من «صديق» اوروبي، استفسر منه عن طبيعة خطوته، ونصحه «بالتريث» لان التداعيات الخارجية ستكون سلبية، في ظل استمرار المحاولات الحثيثة لازالة ما تبقى من «التباسات» في العلاقة مع السعودية… ووفقا لتلك الاوساط سأل ذلك الصديق الحريري «هل تريد ان «تكسر الجرة» مع المملكة العربية السعودية؟ هل اتخذت قرارا بالبوح عن «اسرار» ما حصل معك في المملكة؟ اذا كان الجواب، نعم، فهذا يعني انه عليك المضي قدما بالمقابلة، واذا كان الجواب «كلا»، فيبدو انك لم تجر حسابات دقيقة للتداعيات السلبية التي ستحملها المقابلة، لان «جردة الحساب» لا يمكن ان تطال الحلفاء المحليين وتبقى المملكة بمنأى عن «شظايا» تلك «القنبلة» السياسية..
ووفقا لتلك الاوساط، وضع ذلك «الصديق» امام الحريري السيناريو التالي «انت ستقول ان القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع، وغيرهما من احزاب وشخصيات في قوى 14آذار، كانوا جزءا من المؤامرة عليك في السعودية، فكيف ستتمكن عند هذه النقطة تجاوز دور الممكلة في «حياكة» تلك المؤامرة؟ فهل ذهب هؤلاء من تلقاء انفسهم «للوشاية» بك عند من يفترض انها حليفك الاقليمي؟ وهل كانوا ليتجرأوا على ذلك لولا ان من طرح «الفكرة» في الاصل كانت القيادة السعودية الجديدة التي استدعتهم الواحد تلو الاخر؟ وهل كان هؤلاء قادرين على رفض القرار السعودي «المبرم»؟ بعض هؤلاء ابلغوا بالامر «الاميري» السعودي، وطلب منهم التنفيذ؟ فهل بالامكان اتهام هؤلاء بالخيانة علنا ودون «قفازات» دون التطرق الى المحرض الاساسي؟ هذه جزء من اسئلة واقعية دفعت بالحريري الى اعادة حساباته لان النتائج قد تكون اكبر من قدرته على تحملها…
اما الاسباب الداخلية التي حتمت «فرملة» الخروج عن «الصمت»، فلها علاقة بعدم انتهاء «ماكينة» تيار المستقبل الانتخابية من الوصول الى خلاصات نهائية بشأن تأثير الازمة الاخيرة على الوضع الانتخابي «للتيار الازرق»، وهنا تلقى الحريري نصيحة من قيادات «مستقبلية» خارج دائرته الضيقة، طالبته بعدم حرق المراحل، وعدم «حرق الاوراق» ايضا، فالدخول منذ الان بخصومة سياسية مفتوحة مع حلفاء الامس سيعقّد الموقف في اتجاهين، الاتجاه الاول سيسمح «الطلاق» مع الحلفاء المسيحيين الى تحويل تلك الاطراف الى «ضحايا»، وهذا يحتاج الى تنسيق جدي خصوصا مع التيار الوطني الحر، فالتنسيق ضروري للاتفاق على كيفية ادارة العلاقة مع القوات اللبنانية، فاعلان «الانفصال» عن معراب مختلف عن الحديث القائم الان حيال وجود تباينات، «وبق البحصة» يعني عدم امكانية العودة الى الوراء، فهل اتخذ قرار نهائي بذلك؟ لا جواب حتى الان.. ولذلك «التريث» يبقى افضل المخارج خصوصا ان وضع «القوات» تحت الضغط مفيد اكثر من اعلان «الخصومة» معها في هذه المرحلة… ويمكن للنقاش ان يتواصل معها لبناء علاقة «بشروط» جديدة…
اما المسألة الثانية، فترتبط باحتمالات نسج تحالفات جديدة مع «خصوم» الامس، وقد نصحت تلك الاوساط الحريري بعدم «القطع» مع «الخونة» في فريقه السياسي قبل ابرام تفاهمات مع الطرف الاخر، لان التخلي عن هذه «الورقة» الانتخابية دون الحصول على اثمان مجدية في المقابل، ستضع رئيس الحكومة في موقع ضعيف خلال عملية التفاوض المفترضة، ولذلك يجب الحفاظ على «خط الرجعة»، اقله ريثما تنضج الامور مع الطرف الاخر، وعندها «يبنى على الشيء» مقتضاه..
طبعا التأجيل لم يغير من قناعة الحريري الراسخة بان بعضا من حلفائه قد «خانه»، وهو لم يكوّن قناعته بناء على المواقف السياسية لهؤلاء خلال الازمة، ولم يصل الى هذه القناعة نتيجة تقديرات بعض المستشارين «الحاقدين»، كما تقول القوات اللبنانية، وانما حصل رئيس الحكومة على ما يشبه محاضر رسمية سعودية في هذا الشأن، ووفقا لاوساط دبلوماسية في بيروت فان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بقي «وفيا» لصداقته مع الحريري طوال مراحل الازمة، وكان مقتنعا بان «السيناريو» الذي «طبخه» وزير شؤون الخليج ثامر السبهان، سيؤدي الى نتائج كارثية، وبعد نجاح الوساطة الفرنسية في ترتيب «المخرج» للمأزق السعودي، التقى الجبير بالحريري قبل لقائه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، عشية مغادرته الى باريس، وخلال ذلك اللقاء نصح الجبير الحريري بضرورة التنبه والحذر من بعض الشخصيات اللبنانية التي لعبت دورا «سيئا» فيما حصل، وقدم له شرحا «مسهبا» حول «شهاداتهم» السلبية،وكشف بعضا من ادوارهم السلبية، وكان اكثرها ايلاما عدم ممانعتهم بل تشجيعهم على استبدال الحريري بشقيقه بهاء..
وتخلص تلك الاوساط الى القول، يبدو ان رئيس الحكومة قد استعاد الكثير من «توازنه»، وهو وجه خلال مشاركته في مؤتمر «كارنيغي» بالامس، «رسائل» خارجية تحمل الكثير من الدلالات، فهو وعلى الرغم من تمسكه بعدم «قطع» علاقته مع الرياض، بدا مزهوا بانتصار خياراته السياسية ان لجهة تحالفه «العميق» مع الرئيس ميشال عون، او علاقة «ربط النزاع» مع حزب الله، وكان واضحا من خلال «غمزه من قناة» الدول الاقليمية «الصديقة» قبل غيرها، ان التسوية التي اختارها نهجا لعمله السياسي تؤتي ثمارها، وتجلى ذلك باصراره على القول «انه من الخطأ تحميل لبنان مسؤولية «الحرائق» في المنطقة، وتأكيده انها قضايا اكبر منه وشأن اقليمي، بما فيها سلاح حزب الله»، وكانت «الرسالة» واضحة الى المملكة العربية السعودية التي حاولت فرض نظريتها «بالمواجهة» وفشلت… فالحريري يبدو اكثر ثقة بوجود دعم اوروبي واميركي واضح يجعله واثقا من قدرته على تجاوز تداعيات «الازمة» مع المملكة التي ادركت عدم قدرتها على تجاوز تلك «المظلة» الاقليمية والدولية، وليس امامها الا القبول على «مضض»بواقع الحال، في ظل انعدام الخيارات…