كتب محمد وهبة في “الأخبار”: رسمياً، انتهت الانعكاسات النقدية لأزمة استقالة الرئيس سعد الحريري واحتجازه في السعودية. الأزمة التي بدأت في 4 تشرين الأول الماضي ويُفترض أنها انتهت نهاية الأسبوع الماضي، تركت تداعيات كبيرة تضاف إلى الأوضاع غير السوية في الاقتصاد والسياسات النقدية. إعلان نهاية الانعكاسات النقدية للأزمة جاء في بيانين منفصلين، وإن كان هناك ترابط ما في مضمونهما.
الأول صدر عن البعثة الرابعة لصندوق النقد الدولي التي زارت لبنان بين 6 كانون الأول الجاري و13 منه، والثاني هو محضر اللقاء الشهري بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومجلس إدارة جمعية المصارف. خلاصة موقف الصندوق ان لبنان تجاوز الأزمة، لكن الأزمة الحقيقية لا تزال قائمة من خلال التوقعات بارتفاع نسبة الدين إلى 150% من إجمالي الناتج المحلي. أما خلاصة نقاشات سلامة مع المصارف، ففيها الكثير من الرسائل، أولاها لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير ومفادها أن الاميركيين مرتاحون لامتثال المصارف، وأن الأوروبيين يدعمون لبنان، وأن مصرف لبنان سيدعم المصارف!
نقد مبطن
وجاء في بيان الصندوق في ختام زيارة بعثته الى بيروت للاطلاع على التطورات الاقتصادية والمالية، أن «هناك حاجة ماسة لوضع الاقتصاد اللبناني على مسار مستدام ووقف ارتفاع الدين العام». وأشار إلى أنه «ينبغي على مصرف لبنان أن يستخدم، عند الحاجة، الأدوات النقدية المتعارف عليها للتأثير على أسعار الفائدة في السوق، ومواصلة الجهود لتعزيز الاحتياطات الوقائية في الجهاز المصرفي في ضوء المخاطر التي تتحملها المصارف”.
العبارات المنتقاة بدقة في البيان لم تحمل مديحاً لـ«المركزي»، بل، على العكس، تضمر موقفاً انتقادياً تجاه سلوكه في السنتين الأخيرتين. وهذا الموقف كرّره الصندوق في أكثر من مناسبة أمام سلامة وغيره من المسؤولين. إذ انتقد الهندسات المالية كونها أدوات مالية غير معتادة في السوق وتحمل مخاطر واسعة وكلفة باهظة. وأعلن أنه يفضل استخدام الفائدة كأداة نقدية واضحة المفاعيل والكلفة، بدلاً من العمليات المواربة المنفذة عامي 2016 و2017. ويمكن الذهاب أبعد في تفسير عبارات البيان التي تشير، بوضوح، إلى أن قرار رفع الفائدة بعد أزمة الحريري هو الأداة الصحيحة لاستمرار “النموذج”، إذ أن الهندسات أدّت إلى زيادات متفاوتة في أسعار الفائدة وتذبذبات في السوق ومنافسة غير مضبوطة السقف بين المصارف لجذب الودائع.
تقويم رئيس البعثة كريس غارفيس للوضع المالي والاقتصادي في لبنان، بعد أزمة الحريري، ينطوي على مسارين؛ الأول تجاوز لبنان الأزمة في ظل دلائل على استعادة الأسواق المالية أوضاعها العادية، «وقد ساعدت الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان على دعم الاستقرار المالي. ويتيح استئناف عمل الحكومة عقب عودة رئيس الوزراء سعد الحريري فرصة لمعالجة التحديات الاقتصادية المهمة». والثاني يتعلق بالصعوبات الاقتصادية الأساسية. إذ لا يزال النمو ضعيفاً في ضوء التوقعات بأن «تصل نسبة الدين العام إلى 150% من إجمالي الناتج المحلي في 2017، بينما يبلغ عجز الحساب الجاري 20% من إجمالي الناتج، علماً بأن لبنان يتحمل التكاليف الاقتصادية المطلوبة لتوفير ملاذ آمن لأكثر من مليون لاجئ سوري، وهو عدد يقدر بحوالي ربع السكان».
ورأى غارفيس أن «هناك حاجة ماسة لوضع الاقتصاد على مسار مستدام ووقف ارتفاع الدين العام ليتسنى الحفاظ على الثقة». ويبدأ هذا المسار بالعمل على خطة للضبط المالي تضع الدين العام في مسار تنازلي كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، ما يؤدي إلى تقليل الحاجة إلى أسعار فائدة مرتفعة لجذب الودائع. كما يبقى إصلاح قطاع الكهرباء ومعالجة قضايا الحوكمة من الأمور ذات الأولوية لتشجيع النمو المستدام.
اللقاء الشهري: عضلات الدعم
وبالعودة إلى اللقاء الشهري الأخير الذي عقد في 14 الجاري بين سلامة والمصارف، فقد اندلع سجال بين الحاكم وأحد المصرفيين على خلفية ما يحصل في القطاع من عرض عضلات مصرفية. عضو مجلس إدارة المصارف ذكّر سلامة بما قيل في اللقاء السابق عن مصارف ترفع أسعار الفائدة على الدولار إلى 7% ما يؤدي إلى منافسة غير مشروعة، فيما الاهتمام يجب أن ينصبّ على تأمين الاستقرار النقدي. ردّ الحاكم ببرود بما يفيد بعدم تدخّله في السوق، وبأنه يشجّع المصارف على رفع اسعار الفائدة بصورة عشوائية خارج أي إطار أو سقف. ولم يكتف بذلك، بل استند إلى لقاءاته مع بعثة صندوق النقد التي «أخذت علماً بموضوع تحريك الفوائد من قبل البنك المركزي بهدف استمرارية التدفقات المالية والتحويلات إلى لبنان». وبدا ذلك إقراراً من سلامة بأنه وراء كل خطوات رفع أسعار الفوائد في السوق وعلى علم بكل تفاصيلها.
وبحسب محضر اللقاء الرقم 444/2017، أعلم الحاكم الجمعية بالاتصالات التي أجراها مع الأميركيين الذين أعربوا عن ارتياحهم لإجراءات الامتثال في القطاع المصرفي. وأبلغهم أن «الاوروبيين لم يدرجوا لبنان على أي لوائح في ما يعود إلى موضوع تبادل المعلومات الضريبية، وهذا يساهم في تقوية الأوضاع المالية والاقتصادية للبلد. ونوّه الحاكم بالتصدي الناجح للأزمة نتيجة تعاون المصارف، مضيفاً أن سيولة المصارف بالعملات تشكّل نسبة عالية من موجوداتها بالعملات بشكل قل مثيله، ما يؤشّر إلى متانة القطاع، وأن الطلب على سندات اليوروبوندز عاد…».
واعتُبر كلام سلامة عن الارتياح الاميركي غمزاً من قناة التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير الذي اتهم حزب الله باستعمال القطاع المصرفي اللبناني لـ”تبييض أمواله”.
وكان سلامة أعلم وفد الجمعية بأن سوق القطع شهد هذا الأسبوع عودة إلى الحركة الطبيعية، ولم يكن تدخل «المركزي» ذا أهمية. وأكد أنه «سيعاد تركيز الأمور بعد التطورات المفاجئة في تشرين الثاني الماضي، والتي شكّلت اختباراً حياً لاستيعاب الازمة وتخطيها». وأعاد «هذا التطور الإيجابي إلى الاستقرار السياسي وإلى الدعم الدولي القوي الذي تجلّى في اجتماع باريس لمجموعة دعم لبنان». وأمل أن يتوفر حجم مهم من التمويل لمشاريع البنى التحتية في لبنان بعد تعيين فرنسا سفيراً للتحضير لمؤتمر “باريس 4”.
دعم المصارف مجدداً
وفي انتظار مؤتمر الدعم، «بل وتهيئة له، تمنى الحاكم على المصارف زيادة التسليف للاقتصاد، فنساعد في انطلاق النشاط الاقتصادي وتحريك عجلة النمو. ومصرف لبنان سيواكب مع وزارة المال استعمال المصارف لأي قروض تتلقاها من المؤسسات المالية الدولية كالبنك الأوروبي للاستثمار والوكالة الفرنسية للتنمية وغيرهما بحوافز إضافية ليتم إقراضها للقطاعات الاقتصادية بكلفة فوائد مناسبة». بكلام أوضح، يطلب سلامة من المصارف خفض الفائدة على القروض، ويعدها بتقديم دعم مناسب تعويضاً عن الدعم الملغى في فترة الأزمة!