يتّجه لبنان في «عطلةِ» ما بيْن العاميْن إلى ما يشبه «الإستراحة» ما بيْن العاصفتيْن. واحدةٌ ودّع معها الـ2017 وتجلّت في أزمةٍ صادمةٍ وغير معهودة في ملابساتها، نجمتْ عن استقالةٍ مفاجئة لرئيس الحكومة سعد الحريري عبر شريطٍ تلفزيوني من الرياض قبل أن يعود عنها في بيروت بعد تدخّل دولي وضماناتٍ داخلية – إقليمية بـ «النأي بلبنان عن أزمات المنطقة والنأي عنه». وواحدةٌ يستعدّ لها في ملاقاة الـ 2018 وستكون مفصلية في رسْم التوازنات داخل السلطة وحسْم الموقع الإقليمي للبنان، وتتمثّل في الانتخابات النيابية في مايو المقبل كاستحقاقٍ يحظى بمعاينةٍ إقليمية ودولية استثنائية.
ولم تكن عاديةً «رمزيةُ» أن يصادف الإعلان في بيروت عن دعوة الهيئات الناخبة إلى صناديق الاقتراع (في 6 ايار) في اليوم عيْنه لأول كلامٍ سعودي رسمي عن أزمة استقالة الحريري، قال فيه وزير الخارجية عادل الجبير «ان (الرئيس ميشال) عون و(حزب الله )استخدما الحريري كواجهةٍ لتغيير قانون الانتخاب»، في إشارةٍ قوية على ما ينطوي عليه استحقاق الانتخابات النيابية في لبنان من أهمية محورية بالنسبة إلى اللاعبين الإقليميين والدوليين، لأنه في ضوء نتائجها يَتقرّر «الأمر لمَن» في بيروت في حمأة الصراع الكبير في المنطقة على ترسيم مناطق النفوذ وتَقاسُمها.
ورغم أن لبنان يَمضي إلى اجتيازِ الأعياد بقدرٍ لا بأس به من الاطمئنان إلى خروجِه بأقلّ أثمان ممكنة من أزمة استقالة الحريري بعد تجديد روح التسوية السياسية بملحقِ إلزامي للحكومة وكل مكوّناتها بـ «النأي بالنفس» ورسْم خط أحمر دولي لحماية الاستقرار، فإن قرْع طبول المعركة على برلمان الـ 2018 – 2022 سيبدأ سريعاً مع حلول السنة الجديدة، خصوصاً ان انتخابات مايو ستجري وفق قانونٍ «تجريبي» ومعقّد لم يسبق أن اعتمده لبنان من قبل، ينطوي على قطبٍ مخفية ويشي بنتائج «متوقّعة» سلفاً بسبب «الحياكة» التي تمّت عن سابقِ «تصوّر وتصميم» لهذا القانون القائم على النسبية في صوت تفضيلي وحاصل انتخابي.
التوقّعات في بيروت تؤشر على أن «حزب الله»، الذي دفع بمركب قانون الانتخاب الجديد من الخلف، سينجح في حصْد نتائج تتيح له قيادة تحالف برلماني يُمْسك عبره بالغالبية في مجلس النواب العتيد، الأمر الذي يجعله أكثر قدرة – إذا شاء – على تعديل آليات الحكم أو تشريع سلاحه أو التحكّم أكثر بمفاصل السلطة وبالإمرة الإستراتيجية في البلاد. فـ «حزب الله» المُمْسك عبر تَحالُفه مع شريكه في «الثنائية الشيعية» بـ«الحصة الشيعية» في البرلمان، يصبح في إمكانه مع القانون الجديد «الأكل من صحن» السنّة والمسيحيين والدروز.
وإذا كانت هذه الخلاصة هي مجرّد تقديراتٍ لخبراء في الميدان الانتخابي ولسياسيين يتوجّسون من تَمدُّد قبضة «حزب الله» في اتجاه البرلمان الذي حافظ خصومه في تحالف «14 آذار» المتداعي«على الإمساك بالحصة الوازنة فيه في انتخابات 2005 و 2009، فإن التحوّلات السياسية التي شهدتها البلاد مع التسوية التي جاءت بالعماد عون رئيساً للجمهورية والحريري رئيساً للحكومة أفضتْ إلى خريطةِ تحالفات جديدة، تتجه بدورها إلى تعديلاتٍ بالغةِ التأثير في ضوء الارتدادات الداخلية لأزمة استقالة الحريري».
فالافتراق بين حزب«الكتائب»وشخصياتٍ مستقلة من«14 آذار»عن تحالف«تيار المستقبل»وحزب«القوات اللبنانية»المنخرط في التسوية السياسية، ثم«أزمة الثقة»الحادة والعلنية بين«المستقبل»و«القوات»نتيجة اتهاماتِ فريق الحريري المبطّنة لرئيس«القوات»الدكتور سمير جعجع بلعْب دور سلبي في«أزمة الاستقالة»، يعزّز الاعتقاد بأن تحالفاتٍ من نوع آخر ترتسم في الطريق إلى استحقاق مايو، وستقود البلاد تالياً الى توازناتٍ جديدة.
الثابت في الرسْم التشبيهي لتلك التحالفات أنه في اللحظة التي يعاني تحالف«14 آذار»من انفراط عقده عبر التصدّعات العميقة التي أصابتْه، فإن اصطفاف«8 آذار»استمرّ على تَماسُكه وهو ازداد رسوخاً مع مجيء الحليف المسيحي لـ«حزب الله»، أي العماد عون، رئيساً للجمهورية، وسط علاماتٍ فارقة تميّز خريطة التحالفات المرتقبة أبرزها: تَحالُفٌ محسوم بين الحريري وتيار عون، وبين تيار عون و«حزب الله»، وتَحالُف مُتَوقَّع بين تيار الحريري وحركة«أمل»بزعامة بري، وبين بري و«حزب الله».
وإذا كان من السابق لأوانه الحديث عن«ثوابت»لبنانية في إقليمٍ عاصفٍ ومتغيِّرٍ، فالأكيد أن الانتخابات النيابية في لبنان ونتائجها المحتملة ستكون تحت«عينٍ»إقليمية ودولية«حمراء». فمؤتمرات الدعم الثلاثة التي أعلنتْ عنها مجموعة الدعم الدولية وتَقرّر انعقادُها في روما وباريس وبروكسيل قبل انتخابات بيروت ستكون نتائجها معلَّقةً على الطبيعة السياسية لنتائج تلك الانتخابات، كما أن دول الخليج، لا سيما المملكة العربية السعودية، التي تحمّل الحكومة اللبنانية مسؤولية أدوار«حزب الله»كونه أحد مكوناتها، ستكون أمام تحديات من نوع آخر في حال تمكّن الحزب من فرْض هيمنته على البرلمان، وتالياً فإن انتخابات مايو اللبنانية ستشكل اختباراً حاسماً في تَعاطي المجتمعيْن العربي والدولي مع لبنان.
فـ«التموْضعات»الداخلية الجديدة التي كثُر الحديث عنها على وهجِ أزمة الحريري مع الرياض ويُصار للترويج لها وكأن لبنان معزول عن التوجّهات الدولية قلّل من وطأته الحريري عيْنه أمس حين أكد أن«هناك مَن يحاول أن يوحي بأن لديّ مشاكل مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وهذا الأمر ليس صحيحاً على الإطلاق. بعض الأفرقاء هم مَن لديهم مشاكل مع دول الخليج، أما سعد الحريري فليست لديه مشكلة مع السعودية، والعلاقة مع المملكة هي علاقة مميزة وتاريخية وستستمرّ إن شاء الله من الأفضل إلى الأفضل».
وقال الحريري، الذي كان بارك للبنانيين عبر فيديو على موقع«تويتر»دخول بلدهم نادي الدول النفطية،«أنا أتابع يومياً مسألة تطبيق قرار النأي بالنفس الذي اتخذه مجلس الوزراء، وإذا لم يَحترم كل الأفرقاء السياسيين هذا القرار، فإن مشكلتهم ستكون معي أنا شخصياً».