كتبت ربى منذر في صحيفة “الجمهورية”:
بركلةِ رِجلٍ وعبارة «زيح يا هبِيلة مِن قدّام السيارة»، بدأت «الرحلة» في أحد شوارع سدّ البوشرية. هكذا نبَّه علي صديقَه من خطر الدهس، فيما كانا ينتظران مع نحوِ 1500 تلميذ سوري نازح في الشارع بدءَ صفوفِهم في مدرستَي «سد البوشرية المتوسطة الرسمية للبنات»، وتلك الخاصة بالفتيان… فوضى، تضارُب، هرج، سكاكين وغيرها، قفزٌ على حافّة الكنيسة، ونفايات في كلّ زاوية: أهلاً بكم في الحيّ الذي كان يوماً «بينعاش فيه».
في سد البوشرية، زاروبٌ صغير بمحاذاة كنيسة مار تقلا، تخال للوهلة الأولى أنّ الزحمة على مدخله طبيعية إذ إنّ المنطقة أصلاً سكنية، لتُفاجأ بأطفال من كلّ ناحية وصَوب، يرمون أنفسَهم أمام السيارات ويضرب بعضهم بعضاً، يفتحون علبَ كرتون العصير ويَرشّون بها واجهات المحالّ، يجلسون في كلّ الأماكن ويرمون النفايات، فلا لمزار السيّدةِ العذراء هيبةٌ ولا لحرَمِ الكنيسة اعتبارٌ، لا يَرتعبون من ضخامة السيارات ودواليبها ولا يخافون صراخَ السكّان في وجوههم وغضبَهم، فيفتحون سكاكينَهم أو العصيَّ الخشبية ويلعبون بها: مشهدٌ يكاد يكون كابوساً، لتُصدَم بأنّ هؤلاء الأطفال ليسوا سوى نازحين سوريّين ينتظرون بدءَ دوامِ مدرستِهم في الشارع، ملعبِهم الوحيد.
هنا، نُسِف مفهومُ الطفولة، إذ إنّ للطفل حقّاً في الحفاظ على سلامته وعلى نظافته وعلى حقوقه الطبيعية، لكنْ في هذه الحال تبدأ الباصات التي «تُكدّس» التلاميذَ السوريين النازحين بالتوافد منذ الساعة 11:30 و«ترميهم» لانتظار بدءِ دوامِ دراستِهم الساعة 2:00، مشَكّلةً زحمة سيرٍ خانقة، خصوصاً أنّ حركة السيارات في هذا الشارع باتّجاه واحد، فمِن جهة يتعرّض التلامذة السوريّون لعدة أنواع من الأخطار، سواء الخطر الجسدي من أيّ صدمةِ سيارة، أو الصحّي من النفايات التي يرمونها، أو من عمليات الخطف، أو التحرّش، أو المخدّرات، إلخ…، ومِن جهةٍ أخرى السكّانُ بدورهم باتوا وكأنّهم يعيشون في غابةٍ، فمَن يتحمّلُ المسؤولية؟
“عم نْعالج بالتي هي أحسن”
تُحاول السلطات المحلّية تخفيفَ معاناة الناس ضمن ما أعطيَت من صلاحيات، وفي هذا الإطار، يقول رئيس بلدية الجديدة – البوشرية- السد أنطوان جبارة لـ«الجمهورية»، إنّ «البلدة تُظلَم على أصعدةٍ عدة، ما يؤدّي إلى ازدحامٍ دائمٍ فيها، ومنها مثلاً قضية تعليم النازحين السوريين»، سائلاً: «ألم تجد وزارة التربية والتعليم العالي غير هاتين المدرستين اللتين تتمركزان في شارعٍ صغير ومزدحِم لتضعَ فيهما نحو 1500 طالب سوري؟»، مضيفاً: «كبلدية نعالج نتائجَ المشكلة «بالتي هي أحسن»، فيُنظّف عناصر البلدية الشارع من النفايات والأوساخ، لكنّ الباقي لا سلطة لنا عليه، بل نُناشد الدولة لتحلَّ هذه القضية».
النفايات تُغرق الشارع
يَعتبر كثيرون أنّ دخول هذا الشارع «علقة»، والخروجَ منه «بسالة»، فاجتيازُه رغم قِصر مسافته قد يَستغرق أكثرَ مِن ربع ساعة لتفادي صدمِ الأولاد الذين يتخابَطون معظم الوقت، أمّا عند دخولهم المدرسة بعد «ميّة عزيمة»، فتفرغ الشوارع منهم ليتبيّنَ كمُّ النفايات الهائلُ الذي يُخلّفونه وراءَهم في كلّ مكان، بما في ذلك دار الكنيسة ومزار السيّدة العذراء، حيث «كان سائقو بعض الباصات يضَعون أراكيلهم»، بحسب إحدى نساء الحي، التي تضيف: «منذ مدّة كان أولادٌ مراهقون يقفزون على سيارتي، فنزلَ زوجي من المنزل وتلاسَن معهم، فهجَم عليه نحو 10 شبّان»، سائلةً ماذا «لو شبَقوا حدا منُن بسكّين، شو كان طلِعلي؟»
ووسط تخوّفِ المواطنين من تدهورِ الوضع الأمني نحو الأسوأ، خصوصاً أنّ هذه المنطقة عانت سابقاً من الانفلاش الفلسطيني، ومطالبتهم الدولة بالتدخّل، يوضِح مصدر أمني لـ«الجمهورية» أنّ «المشكلة في هذه الحال ليست أمنية بمفهومها المعروف، بل إنّها إدارية، فالقوى الأمنية في حال تلقَّت شكوى عن حادثةٍ معيّنة فإنها تتّخذ الإجراءات المناسبة فوراً، لكنّنا هنا نتحدّث عن جوٍّ عامٍّ مِن الفوضى وليس عن حوادث أمنية معيّنة، لذلك يُطرَح هنا السؤال: هل أجرَت وزارة التربية دراسةً لقدرة هذا الشارع على استيعاب هذا العدد من الطلّاب قبل المبادرة إلى تسجيلهم؟»
شبّان غرباء…
في مختلف زوايا الشارع، يقف شبّانٌ لا ينتمون لفئة التلاميذ، «هول بيِجوا ليزَنّخوا عالبَنات»، تقول إحدى نساء الحي لتُقاطعَها أخرى: «بيدخّنوا وبيحشّشوا، وشو عرّفنا ما يكونوا تجّار مخدّرات جايين يِستدرجوا هالولاد ويعلّموهن عالتعاطي؟».
ومع ارتفاع حدّة الكلام، تدخلُ إحدى السيّدات، تنظر إلى صديقتها وتقول لها: «هالشحّاطة اللي لابستها ما بِطلع فيها عالبيت وما بدعَس فيها عالسجّاد، هيدي خصوصي للحيّ وللوسخ اللي في»، وتتابع: «أنترفونيت الحي كلّها معطّلة، بيِجو الولاد بيدقّوا وبيِهربوا»، مضيفةً: «إبنتي تُنهي عملها عند الساعة الخامسة، لكنّها تضطرّ لتضييع الوقت حتّى ينتهي دوام التلاميذ السوريين لتعود إلى المنزل، وإلّا فلن تستطيع الدخول إلى الحي».
وعن هذه الشكوك التي تُساور السكّان، يؤكّد أمنيّون لـ«الجمهورية» أنّ الأجهزة المعنية تولي قضية المخدّرات أهمّية خاصة، وهي متيقّظة ومتابِعة لهذا الملفّ ولمحاولةِ تجّارِ المخدّرات توسيعَ أسواقهم في اتّجاه المدارس والفئات العمرية الصغيرة، كما أنّها تُدرك جيّداً خطرَ بعضِ النازحين في مناطق معيّنة، لذا فإنّها تقوم بواجباتها في هذا المجال.
إلّا أنّ عملها لا يمكن أن ينجح ما لم يتمّ التعاون بين الأهالي والإعلام، حيث إنّ للأهالي ولإدارات المدارس دوراً أساساً في إبلاغ الأجهزة المعنية بما لديها من معطيات».
ويرى الأمنيّون أنّ «ما يحصل في هذه المدرسة ومحيطها يحتاج إلى حلٍّ جذريّ في حال ثبتَت الادّعاءات، والحلُّ ليس فقط أمنياً بل أيضاً اجتماعي».
أزمة متعدّدة الأوجه
ما يَحصل داخل حرَم المدرسة موضوع آخر، أمّا هنا فالحديث عن أزمة اجتماعية، سَكنية بَحت، فالسكّان يُجمِعون على أنّهم ليسوا عنصريّين، فهم لا يطالبون بحِرمان هؤلاء الأطفال من التعلّم لأنّهم على يقين بأنّ الطريقة الأفضل لبناء جيلٍ صالح تكون بمحاربة الجهل، لكنّ اعتراضهم الوحيد هو على سوء إدارة الأزمة من خلال وضعِ هذا العدد من التلاميذ في حيّ هو في الأساس صغير، فضلاً عن المخاطر المترتّبة على حياة هؤلاء الأطفال «الضحايا»، ويطالب الأهالي وزارةَ التربية بنقلِ عددٍ من الطلّاب إلى مدارس أخرى، كون الشارع لا يَحتمل هذه الأعداد، والأهمّ من ذلك بفتحِ بوّابةٍ توصِلهم مباشرةً إلى المدرستين، فتَدخل من خلالها الباصات ناقِلةً التلاميذ وهم بمنأى من الأخطارَ المحدِقة بهم، كما أنّ ذلك يُخفّف من الفوضى في الشارع ومن إزعاج ساكِنيه.
“الشكاوى زادت”
في ظلّ كلّ هذه الاتّهامات، توضح مصادر رسمية مطّلِعة على ملف النازحين لـ«الجمهورية» أنّ «هناك نوعين لإيصال التلاميذ في الباصات، أوّلها من خلال هيئات الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية والتي تستخدم الباصات المخصّصة للتلاميذ الأساسيين، ما يضطرّهم لإيصال التلاميذ السوريين باكراً لمعاودةِ نقلِ اللبنانيين عند انتهاء دوامهم، وهو ما ستتمّ دراسته بين هيئات الأمم المتحدة والمنظمات غيرِ الحكومية ووزارة التربية بعدما أثيرَ هذا الملف منذ يومين إثر زيادةِ الشكاوى في هذا الملف.
أمّا المشكلة الثانية فهي انتحالُ بعض السوريين الذين يَعملون في لبنان صفة اللاجئين رغم أنّهم رعايا، وبالتالي ليسوا على لوائح الأمم المتحدة، لكنّهم سجَّلوا أولادهم في دوام بعد الظهر واستأجَروا لهم حافلات خاصّة بمبادرة فردية، وهو ما زاد الزحمة، وما فرَض على الأمم المتحدة مسؤوليةً جديدة في حلّ مشكلتهم».
ويضيف: «سيُثار موضوع فتحِ بوّابة في المدرسة، إلّا أنّ الأمر يحتاج الى دراسة، لعدمِ إزعاج التلاميذ اللبنانيين الذين يدرسون في الوقت الذي يُفترَض أن يدخل فيه السوريون، وقد يكون الحلّ بإجراء نشاطات منظّمة لهم في وقتٍ الانتظار، وهو ما يشكّل جزءاً من النقاش في حلّ هذا الملف، لكنّ ذلك يحتاج تعاوناً بين وزارة التربية، هيئات الأمم المتحدة، هيئات المجتمع المدني والبلديات»، مشيراً إلى أنّ «المطلوب احترام استقرار المنطقة والأهالي والممتلكات، مع الحفاظ على الأولاد وسلامتِهم، وهو ما يتطلّب تنظيماً تعمل عليه الجهات مجتمعةً».
تقاذفٌ للتهَم، ووعودٌ على المنابر، «هيدا اللي شاطرين في بلبنان»، في وقتٍ تكبُر المصيبة ككرةِ الثلج، ويمرّ الوقت معرِّضاً أولاداً في عِزّ طفولتهم لكلّ أنواع الخطر، وراخياً بثِقله على أهالي حيٍّ استاؤوا من بيوتهم ويئسوا من المناشدة، يمرّ الوقت مؤكّداً أنّه كُتِب على اللبنانيين أن يسمعوا وعوداً من دونِ أن يلمسوا تغييراً، فهل ستتبدّل الأحوال وتحلّ الحكومة أزمة النزوح التي تُهدّد الكيان اللبناني؟ أم أنّ التاريخ سيعيد نفسَه؟ سؤال برسمِ الدولة.