كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:
توحي مراجعة الواقع الاقليمي بأن المحصلة الرئيسية تصبّ في خانة نجاحين ساحقين؛ الاول الانتصار على تنظيم الدولة الاسلامية «داعش»، والثاني استتباب الوضع في سوريا والعراق، بما يصبّ في خانة الانتصار الإيراني في البلدين والروسي والايراني في سوريا، في حين يتراجع الدور التركي والسعودي في تحصيل نجاحات توازن هذين الانتصارين، كما هي حال واشنطن التي تظهر اليوم كأنها تركت منطقة الشرق الاوسط تتخبّط في حروبها، مضيفة اليها قضية جديدة عبر قرارها نقل سفارتها الى القدس.
لكن هذا المشهد الاقليمي، بعد ست سنوات تقريباً على حرب سوريا، و14 عاماً على حروب العراق الاخيرة بعد الدخول الاميركي الثاني عام 2003، لا يعني أن الحرب طويت وأن الصراع المسلح الداخلي أو الاقليمي بين اتجاهين قد انتهى. فالعراق لم يخرج بعد من حروبه المتفجرة منذ الثمانينيات مع إيران ومن ثم حرب الخليج الاولى في التسعينيات وصولاً الى اليوم. ولا يمكن اعتبار انتهاء المعركة على داعش وبقاء الرئيس السوري بشار الاسد في منصبه، عودة سوريا الى ما كانت عليه، أو أن إعادة الإعمار فيها ستكون عملية سهلة بفعل الدمار الهائل فيها، وأن التنظيمات المسلحة سلمت سلاحها الى النظام الحالي، أو أن دول التحالف والمعارضة للنظام السوري انكفأت نهائياً وسلمت ببقاء الاسد، وتخلت عن دعم معارضيه، ولو أن هذا الدعم حامت حوله شكوك سياسية وعسكرية.
الأمر نفسه ينسحب على العراق الذي لا يزال، كما لبنان، لا يخرج من أزمة أو حرب حتى يدخل في أخرى. وحتى الآن، لا تزال مشكلة الأكراد عالقة، وغير معلوم اتجاه دور تركيا من إيران وروسيا، وعلاقتها مع إسرائيل وموقف الاخيرة من تطورات سوريا والوضع الحدودي المشترك بينهما. يضاف الى ذلك نهائية الدور الروسي في سوريا، بعد كلام الرئيس فلاديمير بوتين حول بقاء الجيش الروسي في سوريا ونموّ علاقته العسكرية والاقتصادية مع السعودية، فضلاً عن دور دول الخليج وإمكان تسليمها بدور إيراني فاعل، ما يجعل كل الوضعين السوري والعراقي معلقين من دون تصورات نهائية.
ولأن التعامل في هذين الملفين ليس بسيطاً الى الحد الذي يظهر كأن أزماتهما انتهت، لا يمكن الكلام أيضاً عن أن الاوضاع استتبّت في لبنان، وأن الانتصار الذي حققه العهد في شدّ الكباش بينه وبين السعودية على خلفية استقالة الرئيس سعد الحريري كاسح. واستطراداً، لا يمكن أيّ متابع للعلاقات اللبنانية السعودية أن يقتنع بأن الرياض سلمت بفوز طهران في لبنان الذي دخل مرحلة تهدئة برعاية فرنسية وغطاء دولي.
تدل التجارب على أن انتصار فريق في لبنان لا يعني انتصاراً نهائياً، حتى لو بدا رجحان الكفة هذه المرة في الشكل أكثر ثباتاً من الانتصارات السابقة، بفعل تكاتف رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر مع حزب الله، وانضمام الرئيس سعد الحريري الى التسوية الثانية.
ثمة مسلمات يتحدث بها أكثر من طرف سياسي حول المرحلة المقبلة:
لم تنسحب الرياض من لبنان ولا استسلمت لإيران. لا يزال لبنان ساحة احتكاك مباشر أكثر من أي وقت مضى، لأن ما جرى في أزمة الحريري، وتحديداً بعد عودته الى بيروت، لا يمكن السعودية بلعه ولا تجاوزه. هناك من يؤكد أن الرياض، رغم انشغالها في مواجهة تحديات داخلية، ليست في وارد التراجع، ولا يمكن تصور أنها والولايات المتحدة قد يغضّان النظر عن محاولة إيران تكريس دورها الرئيسي في لبنان كما في سوريا، لا سيما أنها تحاول من اليمن الى العراق وعلاقتها مع روسيا وواشنطن استعادة حضورها كلاعب لا يقفز أحد فوق دوره في المنطقة.
لكن في الوقت نفسه لا تظهر السعودية، أو لا تفصح، كأنها تمتلك خطة واضحة لمواجهة ما أفرزته المتغيرات اللبنانية الداخلية الجديدة، علماً بأنها لا تملك كثيراً من الادوات التي تمكّنها من استعادة دورها الذي كانت تمارسه لتحقيق التوازن الاقليمي، سواء مع سوريا سابقاً أو مع إيران حالياً. وهي تعوّل على شريحتين أساسيتين، القوى المسيحية المعارضة لحزب الله وللعهد، والقاعدة السنيّة التي لا تزال تملك عدداً من مفاتيحها أكثر مما تملكه عائلة الحريري. وهي وإن كانت قد سلمت أمر القاعدة الشعبية للحريري في السنوات الماضية، إلا أنها اليوم في طور استعادته، وإعادة تزخيم علاقاتها مع الشخصيات السنيّة المعارضة، حتى ولو لم تتمكن من جمعها في إطار معارض واضح المعالم. أما في الجانب المسيحي المعارض، فكل القوى المنضوية تحت هذا العنوان واضحة وثابتة في معارضتها، لكنها أيضاً لا تملك الكثير من عدة المواجهة، وتتحكم في ما بينها خلافات شخصية وسياسية عدة. حتى إن سياسة العهد القاضية بتخطّي أصواتهم الاعتراضية بالجملة، لم تنجح في توحيدهم.
ومشكلة السعودية وحلفائها أنها حصرت علاقاتها مع الحريري من دون غيره، وهما اليوم يدفعان ثمن هذا الاحتكار. ورغم أن الانتخابات يفترض أن تكون أبرز مفاتيح المرحلة الجديدة لكسر الانتصار الأخير، إلا أن السعودية لا تزال تحتاج الى ورقة الحريري من أجل تحقيق التوازن، لأن مهلة الاشهر الفاصلة عن الانتخابات قد لا تكون كافية لجمع حلفائها في سلة واحدة، من دونه، لمواجهة خصومها.