كتبت وسام ابو حرفوش في صحيفة “الراي” الكويتية:
الزمانُ، وعلى طريقة «كان يا ما كان»، فائضٌ من التراجيديا في لحظةٍ غير مألوفة كأنها بين زمنيْن، أطلّتْ من على الشاشة ظهيرة الرابع من نوفمبر، ومعها ظهرتْ ودفعةً واحدة كلّ عناصرِ الصدمة والتشويق والإثارة وحبْس الأنفاس والفجائية. بدتْ لحظةً شبيهةً بـ «البيان رقم واحد» حين حلّتْ كالصاعقةِ في برْقٍ لا بريق فيه. وحده التجهُّم يوحي بـ «رعْدٍ» ما في الأفق المكفهرّ.
المكانُ، أيُّ مكانٍ وكلُّ مكان… في التلفزيون وعلى الهواتف، في العواصم وعلى كل شفة ولسان. تَدَحْرَج الخبرُ كرةً من الرياض إلى بيروت، كَرَج سريعاً، بَلَغ باريس، عَرَّجَ على واشنطن ثم تحوّل «بقعة زيت» وصار «الرقم واحد» بعدما قال لبنان «هو أو لا أحد»، واشتعلتْ ديبلوماسيةُ الطائرات الخاصة والهواتف الحمر والكوْلسات قبل تَصاعُد الدخان الأبيض.
في الزمن بين الزمنيْن والمكان الذي صار كلّ مكان، كان سعد الحريري الحدَث والحديث، من اللحظةِ التي أعلن استقالةً، قيل عنها الكثير، في الرابع من نوفمبر، من الرياض، الى اللحظةِ التي حطّتْ طائرته في بيروت في 21 من نوفمبر عيْنه… 17 يوماً هائلةً كانت في مغازيها وألغازها ودلالاتها وما انطوتْ عليه في السياسة والتموْضعات والمَشاعر و… الشارع.
لم تُخْفِ الابتساماتُ العريضة في لقطات «السيلفي»، التي أَكْثَر منها الحريري مع عودته عن الاستقالة وتعويم حكومته، علاماتِ الـ 17 يوماً الصعبة… لم يكن صعباً اكتشافُها في «بَصْمةِ» صوتِه رغم تَكتُّمه الثقيل وكأنه «يعضّ على الجرْح»، وها هو الآن مزيجٌ من صورتيْن… صورته «المتجهّمة» التي ارتفعتْ في شوارع بيروت إبان «غيابه» وصورته مع «بابا نويل» يوزّع على الأطفال فرحاً يحنّ إليه.
في غيابه وبعد عودته، تحوّلت بيوت «المستقبل» وصالوناته أشبه بـ «علب أسرار» محروسة بـ «انضباطٍ سياسي وإعلامي» قلّما اخْتَبَره هذا «التيار» المدني الذي انتقلتْ زعامتُه «على حين غرة» من أبٍ (رفيق الحريري) لم تَحْمِه الخطوطُ الحمر من الموتِ بأكثر من طنّ متفجرات على حافة بحرِ بيروت، إلى ابنٍ (سعد الحريري) كان يمكن أن يكون «علي عبد الله صالح» في منطقةٍ لا حدود لخريطةِ الدم فيها.
في الجلسات خلف الستائر المقْفلة مع قادةٍ من «المستقبل» تُدْرِك، وعلى طريقة «اللبيب من الإشارة يَفْهم» أن ما واجهه الحريري أخيراً لم يكن ناجماً عن سوء تقديره لموقف الرياض، بل هو صاحبُ خيارٍ اتّخذه عن سابق تصوّر وتصميم، وها هو يمضي فيه قدماً بعد التجربة الصعبة «الممنوع الاقتراب منها» والحديث عنها، فهي «مُلْك الرئيس» (الحريري).
كان الحريري اختار «المجازفةَ الكبرى» عبر التسوية وأَطفأ محركات الصراع مع «حزب الله»… أَتْعَبَه السيرُ خلفَ نعوشِ رفاقِه في «ثورة الأرز»، وشاهَدَ بـ «أمّ العين» انحسارَ الدور العربي في سورية والعراق واليمن وتَحَوُّل «السنّة» فيه «سكان خِيَمٍ» في بلادهم وفي بلاد الدنيا الواسعة التي كادتْ أن تقفل الأبواب بوجههم، وكأنهم تُركوا لقدَرَهم.
لم يعد يرى الحريري في المواجهة، بالأصالة عن فريقه أو بالنيابة عن «مِحوره»، أمراً مُجْدياً. قرّر أن يلعب من داخل السلطة لإمرار العاصفة وبما تَيسّر من حفْظٍ للتوازن الداخلي… طبعاً لم تساعده «بروباغندا» شركائه في التسوية عندما تَعاطوا معه على أنه مجرّد طالِب سلطةٍ لتعويم أوضاعه المالية في معادلةٍ، السلطةُ فيها لرئيس الجمهورية ميشال عون، وقرارُها الاستراتيجي بِيَدِ «حزب الله».
و«الخصوم الجدد» للحريري، ممّن كانوا معه في مرْكبٍ واحد، لم يشاطروه الأسبابَ الموجِبة للتسويةِ التي رأوا فيها تسْليماً لـ «حزب الله» ومِحوره. وفي ما يشبه «مضبطة اتهامٍ» لحصيلة عامٍ من تلك التسوية، لم يتوانوا عن القول إن زعيم «المستقبل» خلَعَ جِلْد «14 آذار» وأدار ظهْره لحلفائه الإقليميين وفرّط بحقوق طائفته عبر تنازلاتٍ تُخِلّ بالتوازنات، الى ما شابَهَ من اتهامات.
في «درْدشاتٍ» مع «مستقبليين» في الحلقة الحريرية، المقارَبةُ أكثر عمقاً لما يجري، فثمة خللٌ استراتيجي أصاب المنطقة لا يمكن تعويضه في بيروت… كلامٌ كبير عن أنه عندما تُستهدف الرياض كعاصمةٍ سياسية للمملكة العربية السعودية بصاروخٍ إيراني من اليمن، فالردّ يجب أن يكون على طهران، لا بالمواجهةِ مع الضاحية الجنوبية في بيروت.
وبهذا المعنى فإن «رأس الافعى»، إذا صحّ التعبير، في طهران التي تدير الصواريخ والأذرع لا في الساحات التي أَنْهكها غيابُ المشروع العربي، وتالياً فإن المواجهة عبَثية مع «حزب الله» الذي يشكّل حالاً ما فوق لبنانية وجزءاً من مشكلةٍ إقليمية لن يكون حلّها إلا إقليمياً، وهو ما يجعل الأولوية حفْظ استقرار لبنان وأمنه واقتصاده.
ويحدّثك هؤلاء، بلغةٍ لا تخلو من الخيْبة، عن العراق الذي قُدّم على طبَقٍ أميركي لإيران، وعن سورية التي تَتنافس روسيا وإيران على رسْم مستقبلها وسط غيابٍ مُفْجِعٍ للعرب في سوتشي، وعن اليمن الذي شكّل قتْلُ علي عبدالله صالح فيه رسالةً إيرانيةً بالصوت والصورة إلى بشار الأسد وحيدر العبادي ومقتدى الصدر وسواهم.
حتى «السياحة المرقّطة» لزعيم ميليشيا «عصائب أهل الحق» العراقية قيس الخزعلي على الحدود اللبنانية مع إسرائيل لم تكن في رأي هؤلاء رسالةً إلى الداخل اللبناني، بقدْر ما أرادتْ إيران القول «الأمر لي» لأعدائها وأصدقائها في المنطقة على حد سواء، وهم لا يستبعدون أن تَقْلب طهران الطاولة عبر حربٍ من على الجبهة السورية (واللبنانية إذا طالتْ المواجهة) رداً على أيّ محاولةٍ روسيّةٍ لتهميش دورها في سورية.
ومن السهلِ على المرء مُلاحظة تَفادي الكلام عن العلاقة (غير السليمة) مع المملكة العربية السعودية في واقعها الحالي والاكتفاء بالتأكيد على الطابع الاستراتيجي لتلك العلاقة وتَكرار ما يقوله الرئيس سعد الحريري عن أنها جيدة وستكون أفضل، بعدما قرّر «الاحتفاظ لنفسه» بملابساتِ استقالتِه من الرياض و«الصدمة» التي لم يكن يريدها على الأرجح.
وفي محاولةٍ لإسباغِ جوٍّ من التناغُم (المفْتعل) مع الرياض، يَستعين الحريريون بموقفِ وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عن أن المملكة متفهّمة لعودة الرئيس الحريري عن استقالته وتنتظر ما سيؤول إليه «النأي بالنفس»، وهي المعادلة التي تَعَهَّد رئيس الحكومة بأنه سيكون حارِساً على تنفيذها والتزام لبنان بها، على حد ما جاء في «مُلْحَق» التسوية.
وبلهجةٍ أقرب ما تكون إلى «الهمْس»، يُعْرِب هؤلاء عن اعتقادهم أن الرئيس عون يملك ضماناتٍ من «حزب الله»، الذي يحتاج لمبادلته «التحية بأحسن منها»، قد تكون وعْداً بـ «انسحابٍ ما» من سورية مطلع السنة الجديدة، لكن من دون أوهامٍ بأن عون قادرٌ (إذا كان راغباً) على حلّ المشكلة المرْتبطة بسلاح «حزب الله»، فهذه المسألة تتجاوز لبنان.
ولم تَعُدْ مفاجئةً «الحميميةُ» في كلامِ «المستقبل»، الذي خسر الثروةَ وودّع الثورةَ، عن العلاقة مع رئيس الجمهورية الذي فاجأ الجميع بإدارته الحازمة لملف عودة الحريري الى بيروت، فهذه العلاقة ربما أصبحتْ ما فوق سياسية، وهي محوريةٌ تالياً في رسْمِ خريطة التوازنات وتَحالُفاتها، وخصوصاً في الطريق إلى انتخاباتٍ نيابية «مفْصلية» في مايو المقبل.
فالحريريون مُقْبِلون على مرحلةٍ جديدة، وهم يفاخرون بأن العالم بأسره «اقترع» لسعد الحريري عندما اصطفّ خلْف خياره (التسوية) ورأى فيه شريكاً صلباً وضمانةً لاستقرار لبنان… هذا ما قالتْه فرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة ومعها مجلس الأمن، وما تَكَرَّس في اجتماع باريس للدول الداعمة التي أَقرّت عقْد ثلاثة مؤتمراتٍ من أجل لبنان.
من هذه البوابة العريضة يَعْبر «المستقبل» الى انتخاباتٍ تجري، في رأيه، فوق أطلالِ «14 و 8 آذار» وعلى قاعدةِ تَحالُفاتٍ من نوع آخر تجْعله في الوسط و«الكلّ يدور من حوله». وعلى عكس ما هو شائع، فإن «التيار» الذي بدا وكأنه يسير عكس التيار في لحظة ما، لا يَخشى الانتخابات ولا قانونها الذي كان أحد صنّاعه وساهَمَ بتركيب كلّ «برغي» فيه ومُمْسِك بـ «تلابيبه».
«سنتحالف مع مصلحتنا» يقول الحريريون الذين باشروا تركيب ماكيناتهم الانتخابية «من تحت لفوق»، ومعركتُهم ستكون على قاعدة «يا أبيض يا أسود» في اختبارٍ لشعبيّتهم الصافية وفق تحالفاتٍ عريضة لا تستثني أحداً، باستثناء «حزب الله» الذي كان تَقرّر «تنظيم» الصراع معه وبإيجابيةٍ في إطار ما عُرف بـ «ربْط النزاع» في شأن قضايا خلافية عميقة حيال لبنان والمنطقة.
وبـ «معنوياتٍ مرتفعة» يبدّد هؤلاء الانطباع الشائع بأن «المستقبل» مرشّحٌ لخسارةِ جزءٍ لا يُستهان به من كتلته الوازنة «سنخسرُ في مكانٍ وسنعوّض في مكانٍ آخر». لكن الأكيد أنه سيعود من «صناديق الاقتراع» بـ «وجوه جديدة» في غالبيتها، والسبب ما أَفْرَزَتْه أزمةُ استقالة الحريري وقبْلها التسوية من «تَمايُزاتٍ»، وأيضاً الكوتا النسائية، وربما الرغبة في تجديد شباب التيار.
والثابتُ في تحالفاتِ «المستقبل» حتى الآن هو الحلف الجديد مع تيار رئيس الجمهورية (التيار الوطني الحر) وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، وسط انفتاحٍ على المكوّنات الأخرى، كالتعاون «الموْضعي» مع حركة «أمل» بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري، و«القوات اللبنانية» في ضوء ما ستؤول إليه عملية «تنقية العلاقة» معها، إضافة إلى تَناغُمٍ محتمل مع «المردة» برئاسة النائب سليمان فرنجية.
ويقلّل قادة «المستقبل» من وطأةِ الاستنتاجات عن أن «حزب الله» سيفوز بالغالبية في البرلمان العتيد «لا مجلس النواب ولا حتى البلاد ستُحكم بمنطق الأكثرية والأقلية. الجميع الآن في الحكومة على سبيل المثال، ونحن ذاهبون الى تَوافُقاتٍ عريضةٍ لا مكان فيها أيضاً للثنائيات، ربما تُستعاد الترويكا في إدارة شؤون البلاد على غرار ما كان سائداً إبان الوجود السوري».
والأهمّ في رأي هؤلاء، أن الانتخابات المقبلة التي ستجري خارج «قِسمة 8 و 14» بعدما تَعِب الجميع، ستكون كفيلةً بضخّ الحيوية في مؤسسات الدولة في لحظةٍ تنهار الدول من حوْلنا، وهو الأمر الذي سيشكّل ضمانةً للمزيد من الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي و«صمام أمانٍ» في وجه العواصف «لأننا موجودون بين دولةٍ لا نعترف بها ودولةٍ لا تعترف بنا».
… «جرّبْنا أن نَحْكُمَ وَحْدَنا وهم جرّبوا أيضاً… ما مشي الحال»، بهذا المنطق التسْووي عيْنه يقارب «المستقبليون» المستقبلَ السياسي في لبنان القائمِ على توافقاتٍ بين الطوائف، ولسانُ حالهم إننا انتقالنا من لعبة «نحنا وإنتو» الى معادلة «كلنا». فالتسويةُ في رأيهم لم تنطوِ على تنازلاتٍ «بل جاءتْ ثمرةَ تفاهماتٍ كشركاء من أجل حماية لبنان ولجعْل اعتدالِنا ملاذاً برسْم مستقبل المنطقة».