كتبت مارلين وهبه في “الجمهورية”: مِن أبرز الملفّات التي خفّ وهجه في نهاية عام 2017 كان ملفّ النازحين، إذ لا يمكننا نسيان حماسة غالبية الأفرقاء السياسيين، وحتى رجال الدين، في تعداد سلبيات النزوح السوري في لبنان، التي تفاقمَت، فيما رفعَ البعض من هؤلاء السقفَ عالياً داخلياً وخارجياً للتحذير من خطورته، مطالبين المجتمعَ الدولي التحرّكَ لإعادة النازحين إلى مناطقهم الآمنة في بلادهم التي تزيد مساحتها عن مساحة لبنان.
مِن أبرزِ تداعيات هذا الملف تزايُد عددِ الجرائم في لبنان وتنوّعُها ليتّضحَ لاحقاً أنّ أغلبية مرتكِبيها من التابعية السورية، ومِن أخطرِها وأبرزها هذا العام حادثة مزيارة ومقتلُ الشابة ريّا الشدياق على يد ناطور المنزل السوري الجنسية باسل حمزة، وهي الحادثة التي تفاعلت فأبكت لبنان البشر والحجر، وما زالت أصداؤها في مزيارة والجوار تنعكس سلباً على تواجد العمّال السوريين في المناطق والجوار، بعدما حرّكَت هذه الحادثة مشاعر الأهالي وأغلبية البلديات لترحيلِ العمّال السوريين من بلداتهم أسوةً ببلدية مزيارة.
إلّا أنّ نهاية العام حملت لعائلة رَيَّا ولبلدة مزيارة بصيصَ عدلٍ بعد صدور القرار الظنّي بالإعدام بحقّ الناطور السوري باسل حمزة…
كيف تلقّت العائلة الخبر؟
“بدنا يتنفّذ حكم الإعدام بالقاتل وبساحة مزيارة، ومِش نِحنا كعيلة بس بَدنا هيك، كِل أهل الضيعة بمزيارة بدُّن هيك.» بهذه العبارات أجابت ماري الشدياق والدة ريّا «الجمهورية» في تعليقها الأوّل بعد صدور القرار الظنّي بالإعدام لقاتل ابنتِها ريّا، الذي آوَته عائلة الشدياق فغدرَها بعدما أنهى بوحشية حياةَ الشابّة ريّا التي تفتقدها اليوم عائلتُها وبلدتها، وتُناجيها بألمٍ ورجاء وترَقّب.
تختصر الوالدة رغبة الجميع بالقول: «إنّ معركتنا لم تنتهِ بعد، أكيد مبسوطة، «تضيف والدة رَيَّا بثقة، مشيرةً إلى أنّ القرار ما زال ظنّياً وما زال هناك محكمة ومحاكمة، والمعركة لم تنتهِ هنا، مصِرّة على أنّ العائلة لن ترضى بحكم مخفّف للقاتل مهما كان الثمن.
وكانت السيّدة ماري شدياق التي فقدت ابنتها ريّا منذ اربعة أشهر قد كرَّست صفحتَها على موقع التواصل الاجتماعي لمخاطبتِها في السماء يومياً، مكرّسةً الذبائحَ والصلوات والورديات والتسعاويات لروحِها لترقدَ بسلام، معتبرةً في شعار خاص نشَرته على الصفحة أنّ قلبها هذه السنة يُحيي عيدَ الميلاد في السماء. وكانت السيّدة شدياق قد أطلقت على صفحتها بعد مقتل ريّا هاشتاغ «العدالة لريّا» ليتشارَكه بعد ذلك أغلبية أهالي مزيارة.
وكانت والدة ريّا قد خصَّصت صفحتها أيضاً لرصدِ تحرّكات النازحين السوريين، لا سيّما غير الشرعية، مطالبةً بطريقة مباشرة وغير مباشرة بضرورة ترحيلِهم إلى المناطق الآمنة في سوريا، كما دعت عبر صفحتِها البلديات والأهالي في المنطقة وفي الجوار إلى عدمِ استخدام نواطير من التابعية السورية في بلداتهم وقراهم، وكان لافتاً قرار بلديات لبنانية عدة تجاوبَت مع النداء وحَذت حذوَ بلدية مزيارة التي استطاعت ترحيلَ النازحين من أرضها.
جديدُ عائلة الشدياق أنّها شرَعت بعد غياب ابنتِها، بتشييد كنيسةٍ في أرضٍ محاذية لمنزلها عن روح ابنتِهم ريّا على اسم القدّيسة ماريا غوريتي.
لماذا ماريا غوريتي؟
مَن هي ماريا غوريتي حارسة شبيبة العالم؟ القدّيسة ماريا غوريتي هي رمز الطهارة والبراءَة، وفي عامِها الـ ١٢ تمّ الاعتداء عليها وتوفّيَت في اليوم الثاني بعد هذا الاعتداء، وقد خضَعت للامتحان وكانت تَعلم في صميمها أنّ الله هو العليّ العالم فقط…. طُوِّبت قدّيسةً وسامحت المعتدي عليها الذي كان حاضراً في مناسبة تطويبِها.
إنّما هذا الواقع لم يصحَّ مع عائلة شدياق التي ترفض حتى الساعة مسامحة القاتل، مطالبةً بإعدامه في ساحة بلدة مزيارة.
كنيسة للقدّيسة عن نفس ريّا!
عن سِرّ هذه الكنيسة تروي الوالدة: «فكّرتُ مع زوجي في بناء مزار أو كنيسة عن راحة نفسِ ابنتِنا ريّا، واحترنا من نختار قدّيسةً لتشييد الكنيسة على اسمِها، فكّرنا بادئ الأمر في القدّيسة تقلا أو مورا، لأنّ ابنتي توفّيَت في الثاني والعشرين من أيلول، فيما كان عيد القدّيستين تقلا ومورا في الـ 24 من الشهر نفسِه.
إلّا أنّ أحداً مِن أهل البلدة جاءَنا قائلاً: إنه رأى ريّا في منامِه تطلب مِنه بناءَ كنيسةِ ماريّا غوريتي في البلدة، وإيصالَ الرسالة إليَّ (أي إلى الوالدة)وتضيف السيّدة ماري الشدياق أنّ الرؤيا نفسَها شاهدها آخَرون من أبناء بلدة مزيارة المقيمين في نيجيريا وبَعثوا برسالة إلى الأهل يُخبرون بأنّهم رأوا ريّا في منامهم تطلب منهم بناءَ كنيسة ماريا غوريتي في مزيارة.
تقول والدة ريّا إنّها اختشَت للوهلة الأولى من الطلب، خصوصاً أنّها لا تعلم بهذه القدّيسة ولا حتى ريّا ردَّدت من قبل إسمَها أو تحدّثَت عن سيرتها، إلى أن جاءَتها رسالة مِن أستراليا وهي عبارة عن رسالة تعزية من مجهول يروي فيها قصّة القدّيسة ماريا غوريتي، ويشير إلى أنّها تشبه إلى حدّ كبير قصّة ريّا، فيما تكرّرت المطالبة من أبناء البلدة الذين شاهدوا أيضاً ريّا في منامهم تُطالب مجدّداً ببناء كنيسة لهذه القدّيسة، فيما الغريب واللافت حسب قولِ الوالدة أنّ ريا حدَّدت بنفسها المكانَ الذي أرادت أن تُبنى عليه كنيسة ماريا غوريتي، وقالت لأحدِهم من أبناء البلدة «أريدها في أرض أمّي».
وتقول والدة ريّا إنّ الأرض التي اختارتها ريّا مجاورةٌ لمنزلنا، وتعود ملكيتُها لي شخصياً، ولم نكن نفكّر أنا ووالد ريّا مطلقاً في بناء الكنيسة التي نوَينا تشييدَها هناك، إلّا أنّنا وبعد رسالة ابنتِنا قرّرنا بناءَ الكنيسة في الأرض التي اختارتها هي وبناءً لرغبتِها.
ولذلك أيضاً قرّرَت العائلة قبل إقامةِ قدّاس الأربعين عن روح ريّا طبعَ كتابِ سيرةِ حياة القدّيسة ماريا غوريتي ليتعرّف المحبّون عليها وتقديمَه تذكاراً للمشاركين في الصلاة عن نفس ريّا في الذكرى الأربعين لغيابها.
السِرّ ! لماذا ريّا؟
هل اختارت القدّيسة ماريا غوريتي ريّا لتشييدِ كنيستِها في لبنان؟
هذا هو السؤال الذي طرَحناه أيضاً على السيّدة ماري الشدياق التي تقول إنّها تحاول البقاءَ متماسكةً لأجل ولديها الأصغر سنّاً من ريّا، ولأنّ الحياة تستمرّ حسب تعبيرها، مضيفةً: «نحن أناسٌ مؤمنون، ونؤمن بأنّ لله رسائلَ عدّة ويُرسِلها بأوجهٍ مختلفة عبر أبنائه وقدّيسيه، وقد تكون رسالتُه من حادثة ريّا إرساءَ كنيسةِ ماريا غوريتي في لبنان وإيصالَها إلى اللبنانيين الذين لم يتعرّفوا بعد إلى هذه القدّيسة وفضائلِها، فيما اختارت القدّيسة ماريا غوريتي ابنتي ريّا التي تُشبه قصّتُها إلى حدٍّ ما قصّةَ ماريا كي تأتيَ من خلالها إلى لبنان، تماماً مثلما فعَلت قبلها القدّيسة فيرونيكا جولياني.
ولدى استفسارنا من الوالدة عن حياة القدّيسة ماريا غوريتي، أوضَحت لنا كيف طوّبوها بعد شهادتها وكيف سامحَت قاتلها الذي حضَر شخصياً تطويبَها، فسألناها عن رأيها في احتمال أن تكون رسالة ابنتِها ريّا دعوةً للأهل للمسامحة وليس فقط لبناء كنيسة للقديسة ماريا، فأجابَت الوالدة «ماريا حالفَها الحظ ولم تمُت في الليلة نفسِها التي اعتدى عليها القاتل بل فارقَت الحياة في اليوم الثاني وقبل موتِها سامحَته وطلبَت من عائلتها مسامحتَه، لذلك عاد الأهل لمسامحته بناءً لرغبتها، إنّما نحن وللأسف لم يحالِفنا الحظ في وداعِ ابنتِنا ولم يحصل الأمرُ نفسُه معنا لأنّها قاومت قدر استطاعتِها مِن ثمّ فارقَت الحياة.
لذلك جوابي هو «لا أعرف وليس لديَّ جواب»، وطلبي الوحيد اليوم مع العائلة وأهلِ بلدتي أن ينفَّذ حكمُ الإعدام بهذا الوحش في ساحة مزيارة ويكون عبرةً للعالم، كما أطالبُ رئيس الجمهورية بأن تكون لديه الجرأة ويأخذ هذا القرارالجريء لأنّنا نَعلم أن لا أحد غيره قادرٌ على اتّخاذ هكذا قرار في لبنان وتوقيع عقوبة الإعدام.
حاولنا الإشارة في الحديث الى الإتفاقات التي وقَّعها لبنان مع منظّمات حقوق الإنسان والتي تحظّر حكمَ الإعدام، فأجابت الوالدة « إنّ هذه الاتفاقات قد تتناسَب مع وضعيةِ تلك البلدان أمّا لبنان وخصوصاً في هذه الأيام فهي لا تتناسب إطلاقاً مع أوضاعنا السائدة .
في ختام حديثِها مع «الجمهورية» شكرَت والدة ريَا جميعَ مَن واسَوها ووقفوا بجانب العائلة، وتقول عنهم إنّهم كُثر، وإنّ منزلها حتى اليوم لم يخلُ مِن الأصدقاء والأحبّة والأوفياء، وهم جميعاً تمسّكوا وسيبقون متمسّكين بشعار «العدالة لريّا» حتى يفرض العدل سيفَه.