يبدو ان الاصلاحات الهيكلية منذ الأزمة المالية، والتي سارت ببطء لكن بثبات، بدأت تأتي ثمارها في اوروبا، حيث تُسجل حاليًا ادنى معدلات بطالة منذ العام ٢٠٠٩. هذا التحسّن يرجّح ان يستمر حسب جيمس نيكسون، احد كبار الاقتصاديين، سيما وان الاتحاد الاوروبي سعى جاهدًا لترتيب اموره الداخلية واجرى اصلاحات جذرية، لكن وعلى الرغم من استعادة سوق العمل نشاطه ما زال الاتحاد يعاني من معدل بطالة بنسبة ٩،١ بالمائة في بعض الدول مقارنة بمتوسط قدره 7.7 بالمائة لأوروبا بالإجمال وبمقدار 4.3 بالمائة للولايات المتحدة.
لذلك، وعلى عكس التوقعات يبدو ان اوروبا تتجه نحو فترة ذهبية مع رفع التوقعات، ويمكن القول ان اوروبا لم تعد الرجل المريض للاقتصاد العالمي. هذا التحول مذهل بعد ان اغرقت الأزمة المالية العالمية المنطقة في ديون سيادية وبطالة قياسية وانكماش عميق هدد الى حد ما العملة الاوروبية وبقائها. والسؤال الذي يطرح الآن ما اذا كانت قصة النمو الاقتصادي في منطقة اليورو للعام ٢٠١٧ نشوة فقط، والجواب قد يكون اكثر من كونه اكاديميا.
وقد أعطت الخبرات مثالًا صارخًا عن هكذا نشوة والامثلة كثيرة في هذا النحو إذ إن العام 1999 خير مثال على ذلك، سيما وأنه وبعد سنتين من قيام العملة الموحدة فقدت هذه العملة ٢٠ بالمائة من قيمتها لتسمى آنذاك بين تجار العملة بـ toilet currency أو العملة المرحاض. كذلك وبعد خروجها من الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٩ نما الاقتصاد بما دفع المركزي الأوروبي الى رفع اسعار الفوائد في أوائل العام ٢٠١١ والذي أدّى الى أزمة اعمق قبل نهاية العام.
لذلك لا بد من قراءة التاريخ بحذر. وقد يكون النمو التي تشهده اوروبا حاليًا طفرة رغم ان الكثير من المستثمرين والاقتصاديين يرون في هذا النمو أنه مبني على اسس صلبة. وحسب Peter Praet ، كبير الاقتصاديين في المركزي الأوروبي، ان الأسس اليوم صلبة وقادرة على استيعاب الصدمات الخارجية مع معدلات نمو فاقت في السنتين الاخيرتين الولايات المتحدة الاميركية.
وهنا يفترض التوضيح ما اذا كان هذا النمو سيبقى مستدامًا بدون برنامج تحفيز، والذي من المفترض ان يخف تدريجيًا لينتهي حسب التوقعات مع نهاية العام ٢٠١٨. والسيناريو هذا لم يدرج ايضًا اثر الأزمة الكاتالونية والتطورات المقبلة والتي قد تؤثر على النمو بشكل لا يمكن التنبؤ به.
يعود الفضل في النمو في الواقع الى ألمانيا، اكبر اقتصادات المنطقة، والتي شهدت نموًا سريعًا في الربع الثالث من السنة مدفوعًا بازدهار في الصادرات وزيادة استثمار الشركات في المعدات. أدّى ذلك الى ارتفاع الناتج المحلي الاجمالي الموسمي الالماني بنسبة ٠،٨ بالمائة متغلبًا على التوقعات التي جاءت بنسبة ٠،٦ بالمائة فقط.
كذلك كانت الحال في فرنسا وايطاليا حيث نسب النمو فاقت التوقعات بسبب الصادرات والطلب المحلي.
وقد يكون هذا النمو هو الذي دفع البنك المركزي الاوروبي الى بدء تخفيف عملية التحفيز وتخفيض حجم السندات المشتراة الى ٣٠ مليار يورو كل شهر مع ترك الباب مفتوحًا امام اعادة عملية التحفيز في حال الحاجة.
والامر المقلق يبقى انه وعلى رغم تحسن الحالة لا تزال هناك تحديات هامة من بينها استمرار ارتفاع مستوى الدين العام في اوروبا حوالي ٩٠ بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي، واستمرار ارتفاع مستوى البطالة في بلدان مثل اسبانيا واليونان وانخفاض نمو الاجور مما يدل على ان هذا النمو الملحوظ لا يشعر به العديد من الاوروبيين.
اضف الى ذلك، لا يزال الاستثمار دون مستوى ما قبل الأزمة والتضخم لا يزال مكبوحًا مما يعني ان الوضعية الاقتصادية الحالية لا تزال هشّة، وتحتاج الى مزيد من التروي في التفاؤل ورؤية الامور بالشكل الذي يراه المركزي الاوروبي.
ويحذّر الاقتصاديون من طفرة التفاؤل هذه سيما وان العملة الموحدة لا تزال تواجه مشاكل عدة في حاجة الى معالجة أهمها قد يكون الوحدة المصرفية واسواق المال، لكنها ليست بالامور الجديدة وبحاجة الى وقت اكبر لمعالجتها، فضلًا عن ان بعض الدول لا تزال تعاني من مشاكل حادة مثل ايطاليا، ومشكلة كاتالونيا مع اسبانيا والمشاكل العديدة التي ما تزال تعانيها اليونان.
ويبقى الأمر الاكاديمي شيء آخر، اذ ان النمو في اوروبا وما نتج عنه لا يتوافق الرأي مع الفكر الاقتصادي والذي يؤمن بمنحى «فيليبس» والعلاقة بين التضخّم والبطالة، كذلك بين النمو والتضخم مما يعني ان الامور ليست اكيدة بعد وتتطلب وقت لتتوضح.
هذه الآفاق المشرقة في منطقة اليورو هي في تناقض صارخ مع توقعات المملكة المتحدة حيث ان الشكوك تكتنف الطلاق مع الاتحاد الاوروبي الامر الذي أضعف الاستثمار والجنيه معًا.
لذلك يبدو المشهد ورغم التفاؤل الذي يثيره هذا النمو ضبابيًا رغم تأكيد العديد من المسؤولين في البنك المركزي الاوروبي ان هذا النمو مستدام وصلب ومبني على اسس متينة. ومع زيادة الديون ونسب الفوائد الصفرية والتي سوف ترتفع يومًا ما في سنة ٢٠١٨ او مع بدء سنة ٢٠١٩ مما يعني زيادة في خدمة الدين الامر الذي سوف يضر بالمستهلك حتمًا وبالمستثمر لا محال قد يعيد التاريخ نفسه مع انتعاش ظرفي ومن ثم انتكاسة.
وتبقى اوروبا رهينة ظروفها الجيوبوليتكية وحالات الانفصال في بعض دولها مما يضفي فترات من عدم الاستقرار التي ستنعكس على الحياة الاقتصادية والمالية في دول المنطقة.
لذلك اذا ما كان هذا النمو غير متوقع حسب بعضهم، الأمر الاكيد انه قد لا يكون مستداما، وقد تكون هذه السنة والسنة المقبلة طفرة تنتهي مع انتهاء التحفيز النقدي وبدء رفع اسعار الفوائد.