كتبت صحيفة “العرب” اللندنية:
ما يزال هذا الرجل يثير الجدل منذ صعود نجمه الذي ترافق مع عودة العماد عون إلى لبنان من منفاه الفرنسي. فقد واجه قبل أيام موجة هائلة من الانتقادات بعد تصريحاته التي قال فيها إن لبنان لا مشكلة لديه مع إسرائيل.
قال وزير الخارجية والمغتربين اللبناني جبران باسيل لقناة “الميادين”، “نحن بالنسبة لنا ليس لدينا قضية أيديولوجية. ونحن لا نرفض وجود إسرائيل. لكن يحق لها أن تنعم بالأمان”.
وبعد الخطاب الناري الذي ألقاه في الجامعة العربية دفاعا عن المقاومة، ها هو يثير غضب الآلاف من المغردين على “تويتر” الذين طالبوا بإقالته.
كل هذا أثاره “صهر الرئيس المدلل” دون أن يرفّ له جفن. وليست هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها على لبنان من يحمل لقب “صهر الرئيس”، فالوزير السابق فارس بويز كان صهراً لرئيس الجمهورية الراحل إلياس الهراوي، ونائب رئيس مجلس الوزراء السابق إلياس المر كان صهراً للرئيس السابق إميل لحود، غير أن باسيل، صهر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يحظى إلى جانب مرتبته العائلية، بمرتبة لم يتمتع بها أي من الصهرين السابقين.
مشكلة الكاريزما
لكن حتى بويز لم يدخل عالم السياسة من بوابة المصاهرة، فهو نجل النائب السابق نهاد بويز وله قاعدته الشعبية والسياسية المتجذّرة في منطقة كسروان وحزب “الكتلة الوطنية”، وإن كان قد صاهر الهراوي، فإن توليه وزارة الخارجية والمغتربين طيلة ولاية “عمّه” وفوزه بالمقعد النيابي في دائرته الانتخابية لم يكونا بسبب هذه المُصاهرة، وكذلك الأمر بالنسبة للرئيس إلياس المر، فوالده أشهر من أن يعرّف في الدوائر السياسية والانتخابية اللبنانية، وله ثقله ووزنه السياسي والشعبي الذي أتاح له خوض غمار السياسة من دون “منّة” عمه، ولم يترشّح للانتخابات لأن والده، أطال الله بعمره، لا يزال رقماً انتخابياً صعباً ولم يكن في وارد التقاعد عن العمل، غير أن باسيل، يختلف عن الاثنين بكل المقاييس.
ولد جبران باسيل في بلدة البترون في العام 1970 لعائلة متواضعة، وتوفي والده وهو صغير فتولّت والدته أميّة شدراوي من بلدة حدث الجبة تربيته، متكلة بذلك على عمّه كسرى، الرئيس السابق لبلدية البترون.
غير أن جبران الذي شعر بالمسؤولية في سن مبكرة، أظهر ملامح التفوّق في الدراسة ما أهلّه لدخول الجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الهندسة. ويروي عنه أصدقاؤه أنه كان يملك طموحاً غير محدود، وقد تجلّى ذلك بوضوح في مسار حياته لاحقاً، وقد نجح في تأسيس شبكة علاقات عملية واسعة أوصلته في نهاية الأمر إلى “حضن” عمه قائد الجيش السابق العماد ميشال عون بعد زواجه من ابنته الصغرى شانتل في العام 1999.
باسيل وأثناء حكومة الحريري الأولى كان هو من أعلن من دارة عون في الرابيه وحوله وزراء {الثلث المعطل} بأكملهم، استقالة هذا الفريق من الحكومة لدى اجتماع الحريري بالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في البيت الأبيض، متباهيا بأن الحريري دخل إلى الاجتماع رئيسا للحكومة وهو من أخرجه منه رئيسا سابقا
لم يظهر جبران أي “كاريزما” تمكّنه من خوض غمار العمل الأهلي حيث ترشّح في العام 1998 للمرة الأولى إلى الانتخابات البلدية ضد عمّه كسرى.
لكن باسيل فشل في تحقيق أيّ خرق في ذلك الوقت، وكانت تلك الخسارة بداية انكساراته الشعبية التي توالت لاحقاً في العامين 2005 و2009 حين ترشّح إلى الانتخابات النيابية، ورغم أنه أصبح حينها يتمتع بثقل وفّرته له مصاهرته لعون، إلا أن ذلك لم يشفع له فخسر في الدورتين.
استراتيجية الانتقام السياسي
باسيل الذي حظي بمكانة مميّزة في عائلة عون، خصوصاً لدى زوجة العماد ناديا الشامي، أصبح لصيقاً بعمّه، وبعد استثناء هذا الأخير من الحلف الانتخابي الواسع الذي تشكّل في العام 2005 عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدأ باسيل ينسج في شباك تفاهم سياسي انتخابي مع “حزب الله” كانت نتيجته التفاهم الشهير الذي وقعّه عون مع الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في كنيسة مار مخايل في العام 2006.
منذ تلك اللحظة بدأت مفاعيل تأثير باسيل على القرارات السياسية تتجلّى بوضوح. حتى راجت في تلك الفترة مقولة إن ما من موقف سياسي يتخذه عون إلا وجبران وراءه، وساهم هذا التفاهم في تعزيز مكانة عون على الساحة اللبنانية، إذ أن تأييده الكامل لسياسات حزب الله الداخلية سمحت له بحفظ موقعه في المعادلات الحكومية وتركيبتها وبالطبع كان المستفيد من ذلك هو جبران دون سواه.
وبعد أن أصبح رقماً صعباً في الحياة السياسية اللبنانية منذ العام 2008 وعقب اتفاق الدوحة الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى الرئاسة الأولى، تولّى باسيل في يوليو من ذلك العام وزارة الاتصالات في الحكومة الأولى لعهد الرئيس سليمان والتي شكّلها الرئيس فؤاد السنيورة، وفي هذه الوزارة باشر جبران ما يمكن وصفه بالمسار الانتقامي من فريق الـ14 من آذار ومن الحريرية السياسية التي اعتبرها عدوّه الأول.
وما بين الانتقام السياسي والمشاكسة داخل مجلس الوزراء، وبين الطموحات السياسية والمالية الشخصية التي لا تقف عند حدودها أي ضوابط، راجت في تلك الفترة أخبار كثيرة تتعلق بصفقات مالية مشبوهة يجريها باسيل في وزارته، حتى أنّ الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية ونشرات الأخبار اليومية كانت تضجّ بأخبار “الصفقات المشبوهة” دون أن تقدّم أي معلومات ملموسة عنها، ما جعل باسيل يستمر في غيّه غير آبه بما يُروى ويُحكى، معتمداً على “مصداقيته” لدى حزب الله الذي وفّر له من خلال دعم “عمه” كل الحماية اللازمة.
“الصهر المدلّل” وصاحب الحظوة الكبيرة
وفي العام 2009، وبعد خسارته في الانتخابات النيابية أمام مرشّح القوات اللبنانية النائب أنطوان زهرا و”الزعيم” البتروني النائب بطرس حرب، ومع فوز فريق الرئيس سعد الحريري وقوى الـ14 آذار بالغالبية النيابية، تمّ تكليف الحريري بتشكيل الحكومة الأولى بعد الانتخابات الذي وضع في الجهر والعلن قراراً نصّ على عدم القبول بتوزير خاسر في الانتخابات، والمقصود بذلك جبران باسيل أكثر من غيره.
“الصهر المدلّل” وصاحب الحظوة الكبيرة، وقف حائلاً أمام سهولة تشكيل الحكومة الحريرية الأولى، حتى أنّ ميشال عون جاهر حينها بأنه إذا لم يوزّر جبران “عمرها ما تتشكّل حكومة”. إلى هذه الدرجة كان وجود باسيل في الحكومة حيوياً ومهماً بالنسبة لعمّه وتياره السياسي، الذي كان بعض أركانه بدأوا في العمل على إصدار وثيقة بعنوان “الإبراء المستحيل” تطالب بمحاسبة فريق الـ14 من آذار وتحديداً تيار المستقبل والرئيس فؤاد السنيورة على أموال قيل أنها صرفت من دون قيود وتبلغ 11 مليار دولار.
تولّى باسيل في الحكومة الحريرية وزارة الطاقة والمياه، غير أن “حزب الله”، الذي كان بالتوافق مع عون والرئيس نبيه برّي قد اشترط الحصول على “الثلث الضامن” في تشكيل الحكومة، سمح لباسيل بالتحكم بمجريات العمل الحكومي الداخلي حتى أنه بعد وصول الخلاف مع الحريري إلى أقصى درجاته، كان هو من أعلن من دارة “عمه” في الرابيه وحوله وزراء “الثلث” بأكملهم، استقالة هذا الفريق من الحكومة لدى اجتماع الحريري بالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في البيت الأبيض، متباهياً بأن الحريري دخل إلى الاجتماع رئيساً للحكومة وهو من أخرجه منه رئيساً سابقاً.
ومع تلك الضربة المعنوية القاسية التي وجّهها باسيل لفريق 14 آذار، بدأت الساحة تخلو أمام “الصهر المدلل” ليمارس سطوته السياسية فعاد إلى حقيبته الوزارية في الحكومة التي شكّلها الرئيس نجيب ميقاتي، لكنه كان “وزير الوزراء” يفرض قراره ورأيه على سائر الوزارات التي يتولاها “العونيون” ناهيك عن معارضته المشاكسة لأي قرار حكومي لا يكون موافقاً عليه.
وبدأ لبنان يضّج بالمعلومات حول النفوذ الكبير لباسيل، حتى بات يلقّب بـ”السلطان” جبران، تيمناً باللقب نفسه الذي منحته المعارضة في عهد الرئيس الراحل الشيخ بشارة الخوري لشقيقه الشيخ سليم، الذي كان يتدخل في كل شاردة وواردة ويقبض الرشى ويتنعّم بالصفقات في عهد شقيقه.
24 رئيسا للبنان
في حكومة الرئيس تمام سلام التي تشكّلت في نهاية عهد الرئيس سليمان، تولّى باسيل وزارة الخارجية والمغتربين، غير أن ما ميّز تلك الفترة هو دخول لبنان في الفراغ الرئاسي الذي أعقب انتهاء ولاية سليمان، فأصبحت الحكومة بموجب الدستور تتولّى صلاحيات الرئيس مجتمعة، فأطلق باسيل حينها مقولة إننا في حكومة 24 رئيسا.
لا يمكن تجريد جبران من براغماتيته، فهو يعمل من دون كلل أو ملل، ويصل الليل بالنهار، تساعده في ذلك حيويته المفرطة، بغية الوصول إلى هدفه الأبعد، بعدما حقق هدفه الأقرب بإيصال عمه إلى بعبدا
ولأن “حزب الله” أراد أن يفي العماد عون حقه لولائه ودعمه، ظلّ متمسكاً بترشيحه إلى الرئاسة ولا يقبل عنه بديلاً، والمعارضة الوحيدة القادرة على منع وصول عون إلى قصر بعبدا كانت متمثلة بالحريري أكثر من غيره كونه يرأس الكتلة النيابية الأوسع في المجلس، وعليه بدأ جبران يغزل لحياكة عباءة الرئاسة على مقاس عمه، مستعيناً بـ”سهم كيوبيد” الذي أصابه فجأة بعد تعرّفه على نادر الحريري، ابن عمة الرئيس سعد الحريري ومدير مكتبه.
لعب باسيل ونادر الدور الأهم في صياغة التسوية التي أدّت إلى تراجع الحريري عن موقفه المعارض لوصول عون إلى بعبدا، وبدأت معها الأقاويل الكثيرة حول الشابين اللذين يديران اللعبة السياسية والمصالح في لبنان، غير أن “الكيمياء” بين الرجلين، أعطت ولا تزال فعلياً ثمارها.
لقد أنتجت هذه الصفقة قانونا انتخابيا ظلت القوى السياسية عاجزة عن تفصيله سنوات عديدة، وأنتجت قانوناً للموازنة بعدما ظل لبنان 11 عاما يصرف على القاعدة الاثني عشرية، كما أن التعيينات الإدارية والدبلوماسية والعسكرية والقضائية أقرّت بعدما كانت الخلافات الداخلية تقف بوجه تمريرها.
صراع مع جنبلاط وجعجع
غير أن ذلك كله تمّ وفقاً لمصالح وأهواء باسيل، فأصبح مجمل “قالب الجبنة” من حصته، وهو ما أدى إلى زعزعة “تفاهم معراب” الذي وقّعه عون مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، والذي كان جبران أحد أشد المنظّرين له باعتباره وضع حداً لـ”حروب الموارنة”.
استثناء عون من الحلف الانتخابي الذي تشكّل عقب اغتيال رفيق الحريري، دفع باسيل إلى نسج شباك اتفاق مع ‘حزب الله’ وقّعه ‘عمّه’ مع نصرالله في كنيسة مار مخايل في العام 2006.
تميّزت علاقة عون وباسيل بالنائب وليد جنبلاط بالبرودة لفترات طويلة. أراد باسيل تفجيرها من خلال زيارة قام بها إلى منطقة عاليه، اعتبر فيها أن المصالحة في الجبل لم تتم لأنها استثنت التيار الوطني الحرّ لدى اللقاء التاريخي الذي جمع البطريرك الطيب الذكر مار نصرالله بطرس صفير مع جنبلاط في المختارة. وفي أحيان أخرى اختار باسيل تبريدها من خلال زيارة ثانية بعد أسبوعين إلى الجبل، انضم فيها إلى الإجماع حول اعتبار المصالحة تاريخية وخطاً أحمر يجب عدم تجاوزه.
وبالأمس القريب كان باسيل وعقيلته يتناولان العشاء على مائدة جنبلاط وعقيلته في دارة الأخير في كليمونصو، وذلك في محاولة للوقوف على “خاطر” جنبلاط باعتباره رقماً صعباً في السياسة اللبنانية لا يمكن معاداته، وربما في محاولة للتوصّل إلى تسوية تضمن له تمثيلاً نيابياً في قضاءي الشوف وعاليه حيث جنبلاط هو اللاعب الرئيس والزعيم الأبرز والقادر على صياغة اللعبة الانتخابية كما يريد.
رغم ذلك كله، لا يمكن تجريد جبران من براغماتيته، فهو يعمل من دون كلل أو ملل، ويصل الليل بالنهار، تساعده في ذلك حيويته المفرطة، بغية الوصول إلى هدفه الأبعد، بعدما حقق هدفه الأقرب بإيصال عمه إلى بعبدا، فهو يعمل حاليا لتحقيق ما يصبو إليه بتزعّم أكبر كتلة نيابية مسيحية ليمسك بعدها مفتاح باب قصر بعبدا بنفسه، ووسيلته إلى ذلك الانقضاض على مقولة “الحكيم يتحضّر لوراثة عون” التي راجت عقب تفاهم معراب، وإعادة إصلاح ذات البين مع الزعيم الشمالي سليمان فرنجية لقطع الطريق أمام تفاهمه المحتمل مع جعجع، والأهم من ذلك كله، استمرار التفاهم مع الحريري الذي يحفظ المصالح والصفقات والمستقبل السياسي.
يخلق باسيل لنفسه كل يوم عدواً جديداً متنقلاً من موقف إلى آخر، فها هو وزير البيئة اللبناني السابق محمد المشنوق يغرّد على “تويتر” قبل أيام قائلا “إذا كان جبران باسيل لا يجد اختلافا أيديولوجياً مع إسرائيل ويطالب بالأمان لها، فإن على مجلس الوزراء أن يقيله لأنه يخالف الدستور والقوانين والبيان الوزاري واتفاقات التحالف السياسي”. لتعصف السياسة بجبران باسيل. وهو يخوض غمارها بجرأة، لكن هل يتمكّن من تحقيق أهدافه وسط هذا التناقض الذي تثيره تصريحاته، مُوحية بانعدام النضج السياسي، أو بدهاء نادر.