كتب د. ريشار قيومجيان
تحتفل الكنيسة الرسولية الأرمنية (الأرثوذكسية) بعيد ميلاد سيدنا يسوع المسيح في السادس من كانون الثاني من كل عام، بينما تحتفل الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية بالعيد في الخامس والعشرين من كانون الأول أسوة بكنيسة روما وباقي الكنائس الأنطاكية الشرقية التي تتّبع التقويم الغريغوري.
لا يعكس اختيار يوم العيد أي خلاف لاهوتي أو عقائدي، سوى أن الكنيسة الرسولية الأرمنية بقيت مخلصة للتقاليد القديمة. فحتى القرن الرابع ميلادي دأب المسيحيون على الاحتفال بالعيد في السادس من كانون الثاني، كون المسيحيون الأوائل لا سيما الرومان حافظوا على بعض تواريخ الأعياد الوثنية واستبدلوها لاحقاً بأعيادهم الدينية المسيحية، الى أن أعلنت كنيسة روما في العام ٣٣٦ أن يوم الخامس والعشرين من كانون الأول هو يوم عيد الميلاد المجيد.
لعيد الميلاد عند الأرمن معنى مزدوج إذ أنه يرمز أيضاً الى الظهور الإلهي. فليلة العيد يرفع الأرمن صلوات عيد الظهور وينقلون الشعلة من الكنيسة الى المنازل إذ تُجسّد الشعلة نور نجمة بيت لحم والنور الذي أنار الطريق للمجوس في سعيهم للوصول الى الطفل المولود يسوع. ويوم العيد تجري مباركة المياه التي ترمز الى معمودية السيد المسيح في نهر الاْردن ويتم توزيع المياه المقدسة بالصليب والميرون المقدس على عامة الشعب كعلاج للروح والآلام الجسدية.
شعلة الروح الإلهية تلك، شعّت وأنارت درب الشعب الأرمني منذ القرون المسيحية الأولى حتى يومنا هذا، وما زالت تفيض عليه نوراً وبركة لكي يستمر ويبقى برغم المحن والحروب والابادة التي تعرض لها عبر تاريخه.
للتجسد والظهور الإلهي عند الأرمن غنى روحي مميّز ورمزية إنسانية رائعة تستمد جذورها من عمق إيمانهم وتاريخهم. هو ليس لاهوت الأرض كما يسميه د. نبيل خليفة فحسب، بل هو عندهم أيضاً لاهوت التاريخ والنضال والبقاء واللغة والتقاليد. إنهم أحفاد كنيسة مقاتلة وأبناء أمة يلتصق لاهوتها بأرضها، ويمتزج ايمانها بدم شهدائها القديسين، فينبت رماد الموت والاضطهاد والإبادة سنابل بقاء، وزهور حرية وعطاء وإبداع.
إنني من المؤمنين بأن الله يفعل في التاريخ والكون، ويلاقي إرادة الأمم والشعوب في اختيار قدرها ودورها على هذه الأرض. لقد جعل الله من أرض ارمينيا، كما أرض لبنان، أرضاً توراتية مقدسة. فوفق ما جاء في سفر التكوين ٥،٤:٨ أنه بعدما تراجعت المياه عن الارض شيئاً فشيئاً، استقرت سفينة نوح على جبال آرارات.
من المبشّرين الأوائل في أرض أرمينيا الرسولين تاديوس وبارثلماوس. وليس صدفة أن تكون الكنيسة الأرمنية من أقدم وأعرق الكنائس وأن تتحول ارمينيا الى أول مملكة في التاريخ تتخذ من المسيحية ديناً رسمياً لها في العام ٣٠١.
اللائحة تطول بالقديسين والشهداء والأبطال والنسّاك ونكتفي بذكر أهمّهم علّنا نهتدي بأعمالهم ومسيرتهم العظيمة:
من الكاثوليكوس الأول والمؤسس القديس غريغوار المنوِّر الذي بصبره وعذابه وعجائبه أقنع الملك Terdat والشعب الأرمني بنور وهداية الإيمان المسيحي؛ الى الشهيدة القديسة هريبسيمه وقافلة سبعة وثلاثين راهبة شهيدة تحدّينَ الإمبراطور الروماني Diocletian بقوة وإرادة المسيح؛ الى القديس نرسيس، منوِّر القلوب وحامل راية المحبة؛ الى أب الألفباء الأرمنية واللغة المكتوبة القديس مسروب؛ الى القائد القديس ڤارطان المقاوم للفرس والرافض التنازل عن الدين المسيحي حتى الشهادة؛ الى القديس غريغوار دو ناريك الشاعر والأديب واللاهوتي المتصوِّف؛ الى الأب غوميتاس حافظ العادات والفولكلور والموسيقى الأرمنية والذي تعرّض لأبشع انواع التعذيب على أيدي السلطات العثمانية، وصولاً الى الطوباوي المطران إغناطيوس مالويان الذي لازم رعيته واستشهد معها في زمن الإبادة التي ارتكبتها حكومة تركيا الفتاة بحق الأرمن العام ١٩١٥.
ميلاد السيد المسيح عندنا كطائفة أرمنية هو تجسّد إلهي لزرع المحبة في نفوسنا ولإنقاذنا من مساوئنا كبشر، وهو أيضاً ظهور متجدد ليسوع إبن الإنسان في ذاتنا وأعماق قلوبنا.
ليكن العيد هذه السنة كما دائماً، مناسبة لولادة جديدة للمحبة والمغفرة بين اللبنانيين جميعاً، فنتّعظ من تواضع طفل المغارة ونزداد تسامحاً وإنسانية.