كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
قد تكون مفارقة اكثر منها مصادفة. واقعة حدثت في ايار 1985 وجرجرت بضعة اشهر، قبل ان تُسوّى. مصادفة لأن بعض وقائعها متشابه مع مشكلة مرسوم الاقدمية العالق اليوم بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب يقف بينهما رئيس الحكومة حائراً. اما المفارقة فإن بعض أبطال مشكلة 1985 هم انفسهم اليوم، الا ان بينهم مَن رحل: رئيس الحكومة رشيد كرامي، رئيس مجلس النواب حسين الحسيني، وزير العدل نبيه برّي، قائد الجيش العماد ميشال عون، التلميذ الضابط جوزف عون مختصراً مشكلة رفاق دورته.
في ايار 1985 امتنع كرامي عن توقيع مرسوم ترقية تلامذة ضباط المدرسة الحربية (دورة شهداء الجيش 83 ــــ 85) الى رتبة ملازم بعدما لمس خللاً وعدم توازن، ليس بين التلامذة الضباط المسيحيين والمسلمين، وانما في توزّعهم على اختصاصاتهم العسكرية. لأنه حريص على 6 و6 مكرّر، منذ ايام حكومته في عهد الرئيس فؤاد شهاب عام 1961، لاحظ كرامي ان اختصاصَي المدرعات والمدفعية لا يتساوى فيهما عدد التلامذة الضباط المسيحيين والمسلمين، فجمّد مرسوم ترقية التلامذة الضباط في الدورة تلك الى رتبة ملازم مع تعويضاتها المالية ــــ وكان في عدادهم التلميذ الضابط جوزف عون قائد الجيش الآن ــــ ولم يوقعه، الى ان تسنّى العثور على مخرج بعد اشهر.
اوجب هذا المخرج ان يعمد عشرة تلامذة ضباط مسلمين في سلاح المشاة الى نقل اختصاصهم مناصفة الى سلاحي المدرعات والمدفعية، كي يتساووا مع رفاقهم المسيحيين. خمسة مسلمين ذهبوا الى المدفعية، وخمسة آخرون ذهبوا الى المدرعات، فاستوى ميزان الاسلحة.
حتى ذلك الوقت، أمر قائد الجيش العماد ميشال عون التلامذة بأن يتنكبوا رتبة ملازم على اكتافهم دونما انتظار المرسوم المعلّق، بغية الحفاظ على حقوقهم المعنوية والمادية. بينهم مَن ذهب للفور في دورات عسكرية الى فرنسا والولايات المتحدة على انه ملازم، بينما هو لا يزال تلميذ ضابط براتب تلميذ ضابط. كان تعذّر عليهم تخرّجهم في المدرسة الحربية عام 1985 بسبب انقسام البلاد، وتوزّع الجيش على شطري بيروت، فطُلِب منهم الذهاب الى مستودع المدرسة وتسلّم سيوف التخرّج منه.
انقضت اشهر قبل الوصول الى الحل الذي ارضى رئيس الحكومة، بعدما ابصر المساواة والتوازن في اختصاصات اسلحة الخريجين، فوقّع مرسوم الترقية. اقتضى استكمال الحل انعقاد مجلس النواب بدعوة من الحسيني كي يقرّ قانوناً يجيز للملازمين الجدد الحصول على تعويضاتهم ورتبتهم ــــ التي علّقوها سلفاً بقرار من قائدهم ــــ منذ ايار السنة الفائتة، وتبعاً لذلك رواتبهم الجديدة.
بين 1985 والآن مسافة 33 سنة. اصبح قائد الجيش حينذاك رئيساً للجمهورية اليوم، والتلميذ الضابط قائداً للجيش، وصار وزير العدل ــ ولم يكن من أبطال النزاع حينذاك ــ رئيساً لمجلس النواب في قلب المشكلة الجديدة. غاب كرامي صاحب الحل، وخلفه في السرايا اليوم سعد الحريري غير قادر على التوفيق بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي. وقتذاك ــ على وفرة الصلاحيات الدستورية بين يدي رئيس جمهورية ما قبل الطائف ــ وقّعه الرئيس امين الجميّل، الا ان رئيس الحكومة جمّده. إجتُرح الحل من داخل المؤسسة العسكرية، لا من بنات افكار السياسيين الذين تولوا اخراجه. الا ان الامر حتّم ــ كما الآن وفي كل حين ــ امرار مزيد من الوقت لاكتشاف حل غير سحري.
في مشكلة مرسوم «دورة 1994»، الموشكة على دخول اسبوعها الثالث، لا احد يملك حلاً، مع ان معظم مَن خَبِر ــ او اختبر ــ دوره عام 1985 يتذكّر الحادثة ربما، وإن اختلفت المواقع ودخلت البلاد في دستور جديد.
رئيس الجمهورية يعتبر أن نفاذ المرسوم بات من الماضي. رئيس المجلس يرى ان لا اصل لوجود المرسوم كونه باطلاً لعدم اقترانه بتوقيع وزير المال علي حسن خليل. قيادة الجيش عالقة بين حقوق عسكرييها وبين نزاعات سياسية غالباً ما دفعت اثمانها او أُرغمت عليها. مرسوم الترقيات منذ مطلع السنة معلّق هو الآخر. لا يوقّعه وزير المال ما لم يُشطب منه الضباط المستفيدون من مرسوم الاقدمية، ما ألحق الغبن برفاقهم جراء خلاف نصفه سياسي والنصف الآخر دستوري. حفظت وزارة الدفاع وقيادة الجيش من خلال جدول القيد حقوق الجميع في الترقية، بيد ان لا مرسوم ترقيات حتى اشعار آخر ما لم يمهره الوزير المختص الذي هو وزير المال. بسبب ذلك جُمّدت مراسيم ترقيات ضباط الاسلاك والادارات العسكرية والامنية الاخرى كي تصدر دفعة واحدة.
على نحو كهذا تدور الدائرة اللبنانية على نفسها. في مرسوم 1985 كمنت مشكلة كرامي في انه يبصر فيه خللاً، ولا يختلف مع رئيس الجمهورية عليه، وهو تبعاً لصلاحياته الدستورية مارس الاختصاص الذي يتيح تصويب المشكلة. في المرسوم الحالي الازمة اكثر تعقيداً. توقيع وزير المال على المرسوم على نحو اقتراح رئيس المجلس لانهاء المشكلة، يعني تكريس سابقة توقيع الوزير نفسه ــــ اياً تكن طائفته ــــ على كل مرسوم مماثل، انطوى على اعباء مالية ام لا، وتالياً تثبيت التوقيع الثالث. وهو ما يرفضه رئيس الجمهورية اذ يعتبر المرسوم نافذاً، ولا حاجة الى نشره بعد اصداره، مع ان الفقرة الثالثة فيه تشير الى النشر للتبليغ. بذلك يرى ان لا موجب لاعادته الى وزارة المال لتوقيعه. هنا يفترق عنه برّي ايضاً اذ يمسك بحجة اقوى عندما يسأل عن الاعمال العسكرية الباهرة التي حققتها دورة بكاملها في توقيت واحد كي كلها تنال اقدمية سنة. حجة كهذه يقاربها عون من جانب مختلف، هو انه ينصفهم من ظلم لحق بهم.
بالتأكيد باتت الحاجة الى حلين متلازمين: تذليل المشكلة بين الرئيسين على المرسوم اولاً، ثم الذهاب الى مجلس النواب على طريقة 1985، لاقرار قانون يمكّن الضباط من الاستفادة من ترقياتهم وتعويضاتهم الجديدة المؤجلة، بعد ان يكون انقضى مزيد من الوقت، وكثير من التصعيد وعض الاصابع.