كتب جورج شاهين في صحيفة “الجمهورية”:
بعد شَهر على إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النّصر على «داعش» من «قاعدة حميميم»، توالت الاتّهامات الروسيّة للقوات الأميركيّة بإعادة تنظيم ما تبقّى من مسلّحي «داعش» وتدريبهم في «قاعدة التنف». كان ذلك قبل استهداف «قاعدة حميميم»، فبدأوا بالبحث عن «الدواعش» في محيطها وهو ما نغَّص على موسكو احتفالاتها بالانتصار. فما الذي تعنيه هذه المعادلة؟
تَعتقد مراجع ديبلوماسيّة وعسكريّة تُراقب التطورات في سوريا من قلب موسكو وواشنطن، أنّ الحرب فيها طويلة بعدما تعدَّدت وجوهُها وأشكالُها. وتتحدَّث عن مرحلة جديدة قياساً على المتغيّرات التي طاولت هويّات الجيوش والمنظمات المشارِكة فيها على أكثر من مستوى داخلي وإقليمي، بعدما اندثرت قوى ونشأت أخرى.
كلّ ذلك تمّ تحت سقف المواجهة المفتوحة بين الحلفين الكبيرَين اللذين يقودانها، فبقيت إدارة المعركة محصورة بين الحلف الدولي الذي تتزّعمه الولايات المتّحدة الأميركية من جهة والحلف الروسي – الإيراني – التركي الجديد.
وانطلاقاً من هذه المعادلة، تعدَّدت وجوه الحرب في سوريا التي تقترب من طيّ سنتها السابعة في 16 آذار المقبل. فسقطت على الطريق أسماء، وحلّت منظّمات أو استوعبت أو غيّرت «جلدتها» في مواجهة النظام الذي لم يُبدّل طيلة هذه الفترة سوى خمسة رؤساء حكومات وثلاثة وزراء دفاع محتفظاً بتركيبته الوزارية الأخرى.
وعليه، فقد توالى على إدارة المواجهة من موقع رئاسة الحكومة كلٌّ من عادل سفر الذي تسلّم مهمّاته بعد إقالة محمد ناجي العطري في 4 نيسان 2011، حتى إقالته في 23 حزيران وتعيين بديله رياض حجاب الذي بقيَ رئيساً للحكومة 13 يوماً، قبل إقالته في 6 آب وفراره الى الأردن بعد يومين وتزعُّمه حكومة المنفى حتى الأمس القريب، وعُيّن مكانه وائل الحلقي الذي صمَد أربع سنوات، فأُقيل في 3 تموز 2016 لصالح الرئيس الحالي للحكومة عماد خميس.
ولم يُغيِّر النظام من تركيبته الوزارية سوى وزراء الدفاع، فقاد المواجهة مع المعارضة السوريّة ثلاثة وزراء، الأول اللواء داود راجحة الذي عُيّن في منصبه بعد خمسة أشهر على اندلاع الأزمة وزيراً للدفاع في 8 آب 2011 في حكومة الرئيس عادل سفر خلفاً للعماد علي حبيب، وهو الأول الذي سقط قتيلاً في عملية تفجير «خلية الأزمة» في 18 تموز 2012 في مبنى الأمن القومي وسط دمشق، الى جانب نائبه صهر الرئيس بشار الأسد اللواء آصف شوكت، ورئيس خلية إدارة الأزمة اللواء حسن تركماني، وهشام بختيار رئيس مكتب الأمن القومي في حزب البعث السوري. وعُيّن بدلاً منه في أقلّ من 24 ساعة اللواء فهد جاسم الفريج الذي أُقيل في اليوم الأول من العام الجاري، ليتولّى المهمة العماد علي أيوب حتى اليوم.
وتأتي الإشارة الى هذه التغييرات الحكومية السورية المحدودة رغم اشتداد الحرب وتوسّعها على مساحة البلاد، لتأكيد ما نعِم به النظام من إستقرار حكومي وسياسي على مستوى الحكم لم يُترجم عسكرياً بفعل تشرذم وحدات الجيش وإنشاء وحدات بديلة أشرَف على تدريبها حرس الثورة الإيرانية و«حزب الله»، حتى شكّلت جيشاً بديلاً زاد عديدُه على مئتين وخمسين الفاً حسب التقديرات الأجنبية.
وإلى هذه المُعطيات التي ظهرت عقب استعادة النظام عافيته بعد التدخّل الروسي المباشر عشيّة الأول من تشرين الأول 2015، بقيَت المواجهة قائمة وتبدّلت فيها أسماء المنظمات المعارضة والإرهابية، حتّى أعلن بوتين في 12 كانون الأول الماضي النصر النهائي على «داعش» وبدء خفض الوجود العسكري الروسي في سوريا نحو «قواعدها الدائمة»، وذلك من قاعدة «حميميم» بعد لقاء مع الأسد في قمّة عُقدت على «أرض روسية» في قلب «الأراضي السورية»، وشابتها تصرّفاتٌ روسية ما زالت تردّداتها تتفاعل في سوريا والعالم عندما أبعد أحد الضباط القياديّين، الأسد، عن مضيفه الروسي على منصة الإعلان عن الإنتصار.
والى هذه الوقائع، برزت وجوه جديدة في الحرب حسب القراءات الديبلوماسية والعسكرية الدولية، فقد انتقلت الأزمة السورية من مرحلة إلى أخرى على وقع تطوّرات جديدة ظهرت فيها «العنجهية» الروسية، وتجلّت في احتفالات النصر التي شهدتها القواعد العسكرية الروسية في موسكو ومواقع أخرى، حيث تمّ تكريمُ الضباط منفّذي العمليات الروسية في سوريا.
وكان أبرزها في 26 كانون الأول من العام الماضي والتي شهدت خطاباً عسكرياً روسياً غير مسبوق ادّعى خلاله ضباطُ الجوّ أنّهم كانوا يسيطرون على الأجواء السورية ويتلاعبون بطائرات الحلف الدولي تزامناً مع الكشف عن مواجهات محدودة بينهما في الأجواء تراجعت خلالها طائرات الحلف أمام قدراتهم. ورافقت ذلك إشارةٌ بالغة الدقة إلى بوتين الذي «تباهى» بحجم المتغيّرات التي طرأت على تصرّفات وأداء الجيش الروسي وصولاً الى مرحلة متقدّمة على كل المستويات العسكرية.
وتأكيداً على هذه القراءة للتصرّفات الروسية التي تمّ ربطها بالتحضيرات الجارية للإنتخابات الرئاسية في 18 آذار المقبل تعزيزاً لموقع بوتين فيها، أقرَّت مراجع ديبلوماسية بوجود استراتيجيّة روسية جديدة في مواجهة الأميركيّين وأعضاء الحلف الدولي. وفي الوقت الذي تراجَع فيه الحديث عن مناطق تُسيطر عليها «داعش» لصالح الأطراف المختلفة من موالاة ومعارضة، ومعها القوات التركيّة مباشرة أو القوات الكردية، اتّهمت موسكو على لسان مسؤولي هيئة الأركان العليا، واشنطن، بتدريب المقاتلين من بقايا «داعش» في «قاعدة التنف» الأميركيّة الواقعة جنوب شرق سوريا وفي مناطق مشترَكة تقع تحت سيطرتهم والقوات الكردية في شمال شرق البلاد.
كل ذلك جرى قبل أن تُستهدَف «قاعدة حميميم» الروسية الجوية بقصفٍ مدفعي في الفترة الممتدّة ما بين 4 و8 كانون الثاني الجاري في أوّل اعتداء من نوعه يستهدفها وأدّى الى إصابة عسكريّين وتدمير وإصابة سبع طائرات متطوّرة، عدا عن الكشف عن إحباط عملية كبرى أخرى كانت تستهدف في التاسع من الجاري قاعدتَي حميميم الجوية وطرطوس البحرية معاً بـ13 طائرة مسيّرة، وهو ما دفع الروس الى مباشرة البحث عن بقايا «داعش» والمنظمات الإرهابية الأخرى في محيط القاعدتين، ما يشكّل تطوّراً مهمّاً في الحرب السورية، خصوصاً إذا ما تمّ الربط بين هذه العمليات ضدّ الروس مع تلك التي باشرتها إسرائيل قبل فترة قصيرة مستهدِفة القواعد الإيرانية وأخرى لـ«حزب الله» في جنوب دمشق وشرقها ومناطق مختلفة من محيط حمص الى إدلب ودير الزور، حيث المنشآت ومراكز الأبحاث الكيماوية السورية بتهمة تمركز الإيرانيّين فيها.
وتخلص المراجع الديبلوماسية الى توقّع المزيد من المفاجآت في الحرب السورية، فإذا إستمرَّت العمليات التي تستهدف الروس والإيرانيّين، فهذا يَعني أنّ الحرب السورية ستدخل مرحلةً جديدة ترتفع فيها نسبة التوتر بين الأحلاف الدولية المتصارِعة فيها، وهو نذير شؤم باحتمال العبور الى مرحلة أكثر خطورة بدلاً من المساعي المبذولة للتوجّه نحو الحلول السياسية والدستورية.