كتب صلاح تقي الدين في صحيفة “العرب” اللندنية:
لم يخطئ “الحكيم” يوما في قراءة التبدّلات السياسية التي لفحت بالساحة اللبنانية. حافظ على مبادئه وثوابته التي دفع ثمنها سجنا لمدة 11 عاما وحيدا من بين نظرائه من “أمراء الحرب”. غير أنه ارتكب “غلطة فادحة” دفع بها شريك دربه الحريري ورفاقه في “ثورة الأرز” إلى القبول باختيار عون رئيسا للجمهورية، وها هو يدفع ثمن هذه الغلطة اليوم عبر محاولات عزل واستفراد وهيمنة.
إنه قائد القوات اللبنانية سمير جعجع الذي ولد في عين الرمانة إحدى ضواحي بيروت لعائلة مسيحية أصلها من بلدة بشرّي الشمالية في العام 1952. والده فريد كان رتيبا في الجيش اللبناني. انضم في شبابه إلى حزب “الكتائب” الذي كان يتزعمه النائب الراحل بيار الجميل، وباشر بدراسة الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، إلا أنه ترك دراسته إثر بدء الحرب الأهلية عام 1975 وانتقل إلى جامعة القديس يوسف في الضواحي المسيحية لبيروت، وسرعان ما ترك دراسته مجددا في عام 1976 ليشارك في القتال ضد التنظيمات الفلسطينية وقوات “الحركة الوطنية اللبنانية”.
توحيد البندقية المسيحية
بعد أن خاض الرئيس الراحل بشير الجميل معركة “توحيد البندقية المسيحية”، انضم جعجع إلى “القوات اللبنانية” التي أنشأها الجميل وطلب منه قيادة المجموعة المسلحة المكلفة باغتيال النائب والوزير الراحل طوني فرنجية في أهدن.
وتوالت مغامرات جعجع العسكرية حيث قاد “القوات اللبنانية” في حربها ضد مناطق الجبل الدرزية وقوات “الحزب التقدمي الاشتراكي” والتي انتهت بخسارة “القوات” والتفاوض على انسحاب جعجع مع مجموعة من مسلحيه إلى ساحل الشوف، حيث انتقل بعدها بحرا إلى المنطقة الشرقية التي كانت تعاني من اغتيال الرئيس بشير الجميل، وعدم الاستقرار، ليتربّع على كرسي قيادة “القوات اللبنانية” التي تناوب على رئاستها مقاتلون من رفاقه هم فادي أفرام، فؤاد أبوناضر، وصولا إلى تولي النائب والوزير الراحل إيلي حبيقة.
وبعد وفاة بيار الجميل، الرئيس المؤسس لـ”حزب الكتائب” في صيف 1984، تفاهم جعجع مع إيلي حبيقة على الانقلاب في 12 مارس 1985 على الرئيس أمين الجميل الذي تولى رئاسة “الكتائب” وبعد إصرار حبيقة على حدّ أدنى من الهرمية داخل “القوات” أدت إلى انتخابه رئيسا لهيئتها التنفيذية، تفاهم جعجع مع الجميل حول الانقلاب في 15 كانون الأول 1986 على حبيقة، بحجة إسقاط “الاتفاق الثلاثي” الذي كان حبيقة قد وقعه مع رئيس حركة “أمل” الرئيس نبيه بري ورئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” النائب وليد جنبلاط، في دمشق وبرعاية سورية.
مع وقوع حادثة اغتيال الرئيس رشيد كرامي، توجهت أصابع الاتهام مجددا إلى جعجع، لكن الانقسام الذي كان يعاني منه لبنان في تلك الفترة منع عنه أي ملاحقة قضائية أو قانونية في هذا الملف، غير أن مفاعيل الاغتيال ظلّت نائمة في أدراج معارضي جعجع بانتظار الفرصة المناسبة للانقضاض عليه.
ومع العماد ميشال عون، الذي عيّنه أمين الجميل رئيسا لحكومة عسكرية كانت مهمتها الأولى والأخيرة إجراء الانتخابات الرئاسية وتسليم مفاتيح السلطة إلى رئيس دستوري منتخب، واجه جعجع عون الذي كان يحلم بالوصول إلى كرسي الرئاسة بعدما عطّل كل محاولات انعقاد المجلس النيابي وكانت نشوة السلطة قد تملكّته، فلما اطمأن إلى عدم إمكانية انعقاد المجلس النيابي في جلسة لاختيار رئيس جديد، توجهت أنظاره صوب “القوات اللبنانية” التي اعتبر أنها منافسه الأول والأكثر خطورة على طموحاته، فشن عليها ما عرف بـ”حرب الإلغاء” انقطعت معها كل وسائل التواصل مع جعجع الذي صمدت قواته ولم ترضخ لعون والجيش اللبناني الذي كان الضحية الأكبر لهذه المعركة المدمّرة والخاسرة في جميع الأحوال.
المتهم الأعزل
مع وصول الضوء الأخضر الإقليمي والدولي، توجه أعضاء المجلس النيابي المنتخب منذ العام 1972 إلى مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية، رغم كل محاولات المنع وحجز الحرية والخطف التي مارسها ضدهم عون، لثنيهم عن التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب الأهلية ويعيد توحيد البلد المنقسم، وبالتالي الانقضاض على سلطته المؤقتة من خلال التوصل إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد.
كان جعجع من أشدّ المؤيدين لمؤتمر الطائف الذي أنهى الحرب الداخلية ونص على تسليم كل الميليشيات اللبنانية أسلحتها فاستجابت “القوات اللبنانية” وقرّر جعجع بعدها الانتقال للعمل السياسي، خصوصا أن معارضة عون للطائف ولانتخاب النواب لرئيس جديد هو الشهيد رينيه معوض، كانت نتيجتها دخول القوات السورية إلى المناطق المسيحية والإطاحة بعون الذي فرّ إلى السفارة الفرنسية القريبة من قصر بعبدا ومنها إلى المنفى الفرنسي الذي استمر طيلة خمسة عشر عاما.لكن أثناء الدخول السوري إلى لبنان، وقع ما لم يكن في الحسبان حيث اغتيل زعيم حزب “الوطنيين الأحرار” داني شمعون وزوجته وولداه في منزلهم ببعبدا، في عملية أجمع اللبنانيون على إدانتها إذ أنها طالت امرأة مع ولديها وبطريقة وحشية لم تسجل حتى في عزّ الحرب الأهلية، وتوجهت مرة أخرى أصابع الاتهام إلى جعجع.
وبعد اغتيال الرئيس معوض وانتخاب الرئيس الراحل إلياس الهراوي رئيسا، أصدر الأخير قانون عفو عام عن كل الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية، وهو ما أسقط جميع الملاحقات القضائية المفترضة بحق جعجع عن الجرائم التي قيل إنه ارتكبها أو أوعز بارتكابها، فاستقرت حياته نسبيا واقترن بزوجته النائبة ستريدا طوق جعجع في العام 1990، لكن النظام السوري، العدو الرئيسي لجعجع، كان قد أحكم قبضته على مفاصل الحياة السياسية في لبنان، وحاول محاصرته بشتى الوسائل ودفعه إلى “الاستسلام السياسي” من خلال تعيينه وزيرا في حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، لكن قائد “القوات” ظل على ثوابته ورفض التعاون مع سلطة الاحتلال والوصاية ورفض الوزارة.
ثمن الموقف
رفض جعجع التعاون مع السوريين وأدواتهم اللبنانية لم يكن ليمر على خير. إذ جاءت حادثة تفجير كنيسة “سيدة النجاة” الذي يقول جعجع إنها تمّت بتدبير من سلطة الوصاية والاحتلال السوري للإيقاع به، لتكون الشعرة التي قصمت ظهره بعد أن اتهم بالوقوف خلفها، فتم اعتقاله في العام 1994.
ورغم تبرئته من قضية الكنيسة، إلا أن المجلس العدلي الذي حاكم جعجع أعاد فتح القضايا السابقة الموجودة بحقه وحكم عليه بالإعدام بعد إدانته باغتيال كرامي واتهامه باغتيال داني شمعون وعائلته، لكن الرئيس الراحل الهراوي خفّف حكم الإعدام الصادر بحق جعجع إلى الأشغال الشاقة المؤبدة قبل أن يخرج في العام 2005 بقانون عفو صادق عليه المجلس النيابي.
جعجع الذي خرج من السجن في العام 2005 لم يعد نفسه العسكري المقاتل الذي دخله قبل 11 عاما. لقد كانت هذه التجربة المريرة بالنسبة إليه بمثابة مدرسة تعلّم منها طول الصبر والأناة. لقد غرق في قراءة الكتب التاريخية والسياسية والاجتماعية التي أكسبته فكرا استراتيجيا تجلّى بوضوح بعد استعادته نشاطه السياسي.
لقد شكّلت صلابة جعجع في مواقفه السياسية المبدئية، قاعدة استمال إليها حتى من كانوا من أعدائه في السياسة خلال فترة الحرب الأهلية، لقد كان يعتبر ولا يزال سوريا ونظامها الموروث من الأب إلى الابن حالة ينبغي التعامل معها “من الند إلى الند”، وعدم الانصياع لرغبات وأوامر قيادتها الموجهة إلى الداخل اللبناني حفاظا على سيادة واستقلال لبنان، وبذلك جذب جعجع جميع من كانوا يعارضونه الرأي ولم يذهب إليهم. ولهذا كان انضمامه إلى ثورة 14 آذار وتشكيله مع وليد جنبلاط وسعد الحريري المثلث القوي على رأس قيادتها، قاعدة انسحبت على مواقف الآخرين المناهضين لسوريا خصوصا.
لكن غريم جعجع السابق العماد ميشال عون، الذي كان قد استثني من التحالف العريض الذي تشكّل لخوض الانتخابات النيابية في العام 2005، جنح باتجاه عقد تفاهم مع “حزب الله” تحوّل معه إلى غطاء مسيحي داخلي كان الحزب يرغب في الحصول عليه لتشريع سلاحه. ومع الحرب التي شنّتها إسرائيل ضد الحزب ولبنان في تموز 2006، برز عون و”التيار الوطني الحر” كأبرز مدافع عن المقاومة وسلاحها.
وبوجود جعجع في ذلك المثلث المعارض، تمكن من صوغ علاقات عربية جيدة جعلته يلقى استقبال الملوك والرؤساء لدى زياراته إلى السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر ويحظى بمكانة متقدمة لدى قياداتها، ناهيك عن أن خوض حزب “القوات اللبنانية” الانتخابات النيابية وفوزه بعدد من المقاعد في المجالس النيابية المتعاقبة منذ العام 2005، أتاحا له الانضمام إلى الحكومات والانخراط في السلطة التنفيذية بعدد من الوزراء نالوا احترام جميع القيادات السياسية لتمتعهم بنظافة الكف والنزاهة وابتعادهم عن ملفات الفساد التي أصابت جميع باقي الفرقاء السياسيين دون استثناء.
مع انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان في العام 2014، كان جعجع مرشح “14 آذار” إلى الرئاسة في حين أن “حزب الله” رشّح ميشال عون، وظل متمسكا بهذا الترشيح، يعطّل نصاب المجلس النيابي إلى أن حصلت التسوية الكبرى التي أوصلت عون إلى الرئاسة في العام 2016. وفي سياق هذه الانتخابات ارتكب جعجع “غلطته الكبرى”.
لقد ظلّ فريق “14 آذار” متمسّكا بترشيح جعجع مدعوما من الدول العربية مقابل تمسّك “حزب الله” بترشيح عون، وأدى هذا الأمر إلى وقوع البلاد في أزمة فراغ في الرئاسة الأولى بدأت انعكاساته تلفح عمل باقي المؤسسات الدستورية، فحاولت جميع القوى السياسية الفاعلة الوصول إلى تسوية لإنهاء هذا الوضع الشاذ الذي كاد أن يطيح البلاد برمتها.ومن هذا المنطلق، حاول الحريري القيام بمساعٍ إنقاذية تجلّت باتصالات سرية وأخرى علنية شملت النائب سليمان فرنجية، والذي ينتمي إلى فريق “الممانعة” نفسه الذي يقوده “حزب الله” ويضم إليه عون. وأعلن الحريري عن مبادرته بترشيح فرنجية إلى الرئاسة لكسر الجمود وإنهاء الفراغ الرئاسي ظنا منه أن هذا الأمر سيلقى قبول رفاقه في 14 آذار. ورغم أن جنبلاط الذي كان أعلن انسحابه من 14 آذار في منتصف العام 2009، فإنه سارع إلى الترحيب بهذه المبادرة واستضاف فرنجية في منزله في كليمونصو للإعلان عن تأييده له في الانتخابات الرئاسية.
لكن رياح الحريري لم تسر كما تشتهي سفنه، فكان جعجع قد عقد العزم على مواجهة هذه المبادرة من خلال “اتفاق معراب” الشهير الذي وقعه مع عون وأعلن بعدها تبنّيه ترشيح عون إلى الرئاسة. لقد صدم موقف جعجع الكثيرين وبخاصة رفاقه في “ثورة الأرز” ورغم جميع التجارب المرة السابقة التي خاضها مع عون، إلا أن جعجع بدا مصمما أكثر من أي وقت مضى على “إنهاء الحروب المسيحية” الداخلية، وإيصال رئيس “مسيحي قوي” إلى بعبدا، ربما طمعا في احتمال أن يتحوّل مع نهاية ولاية عون إلى “المسيحي القوي” وضمان انتخابه رئيسا أيضا.
حرب الإلغاء الثانية
أقنع جعجع الحريري بالسير بالتسوية، فكان أن أوكل زعيم “تيار المستقبل” إلى مدير مكتبه نادر الحريري الدخول في مفاوضات مع رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير جبران باسيل أفضت إلى تسوية ضمنت فوز عون بالرئاسة والحريري برئاسة الحكومة. ولكأنّ جعجع في انعطافته تلك يحاول تقليد المدرسة السياسية الجنبلاطية، لكنه لم يكن يتوقع أن النتائج ستكون مغايرة لما طمح إليه.
لكن آمال جعجع من هذه التسوية و”اتفاق معراب” سقطت مع مرور الأيام التي تلت وصول عون إلى الرئاسة والحريري إلى الحكومة، فها هو باسيل يتفرّد في التعيينات الدبلوماسية والإدارية والعسكرية والقضائية على حساب “القوات”، ورغم معارضة وزراء القوات في الحكومة لمشاريع وصفقات يتقدّم بها وزراء عون وشركاؤه، فإن هذه المعارضة تقسط أمام القرارات التي تصدر بالمصادقة على المشاريع والصفقات من قبل الحكومة والرئيس عون.
وزاد في الطين بلّة أن حدة الخلافات بين “القوات” و”العونيين” صارت مواضيع تحليلات صحافية ومقابلات تلفزيونية بدا ظاهرا أن الخاسر فيها كان جعجع و”القوات” حتى أن الحريري الذي كان يفترض أنه “الحليف الذي لن يفرقه عن جعجع سوى الموت” أصبح منحازا إلى عون في جميع قراراته حتى تلك التي تستهدف جعجع والقوات.
ربما تكون الأزمة التي مرّ بها الحريري ومسألة “استضافته الاستثنائية” على ما وصفها جنبلاط، وتصاريح جعجع التي أعقبت تقديم الحريري لاستقالته، قد شكّلت مادة “دسمة” للعتب الكبير الذي يحمله الحريري ضد جعجع، غير أن ما لا يمكن أن يغفر لجعجع هو أن تجربته الشخصية مع عون كان يجب أن تكون ركيزة في قناعته بأن الأمور لن تسير على ما يرام بينهما وأن “حرب الإلغاء” سوف تشن ضده مجددا، بطريقة “سياسية” وليس “عسكرية” كما في السابق.