كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:
منذ عام 2005، لم يمر استحقاق نيابي أو رئاسي ــ وحتى تشكيل حكومة ــ إلا بشق النفس، وبحملة إعلامية وسياسية تتأرجح بين التأجيل ورفضه. وحتى الآن، لم تشذّ انتخابات عام 2018 عن هذا المسار. فكلما زاد الكلام عن ضرورة إجرائها، كثر الحديث في الاوساط السياسية عن احتمال تأجيلها.
لا تبدو العوامل المحلية، على كثرتها، هي الطاغية في الكلام عن التأجيل. ورغم أن لكل طرف تعليله في محاولة التمسك بالمبادئ الاساسية التي تحتّم إجراء الانتخابات في موعدها، وأسبابه لتعزيز وضعيته، تأخذ احتمالات التأجيل أو البقاء في الموعد المحدد، أبعاداً إقليمية. فمنذ عام 2005، ظل التوازن الاقليمي متحكماً في الانتخابات، بين السعودية وسوريا وحلفائهما، ثم بين السعودية وإيران، بعد دخول سوريا في الحرب وصعود العامل الايراني في الساحة اللبنانية تدريجاً، ليحل محل التأثير السوري.
في قراءة سياسية لمجريات الإعداد للانتخابات اليوم عاملان إقليميان. التجاذب السعودي ــــ الإيراني، وما يحصل في العراق من شد حبال حول الانتخابات بين الدعوة الى تأجيلها والتمسك بإجرائها في موعدها، وفشل التصويت السري في البرلمان العراقي أمس، علماً بأن ما يحصل في العراق، ومصير الانتخابات فيه، لا يشذان عن المشهد الاقليمي الباحث عن توازنات في المنطقة، وهو أمر سيؤثر حتماً على لبنان. فكل انتخابات جرت، طغى عليها الحرص على التوازن، إن لم يكن قبل الانتخابات فبعدها. هكذا حصل مع انتخابات عام 2005 وانتخابات عام 2009. وحين رجحت كفة الميزان في المجلس النيابي لفئة، جاء تشكيل الحكومات المنبثقة عن البرلمانين المنتخبين ليعيد التوازن الى السلطة. الاستثناء الوحيد الذي حدث مع تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، كان خطأ في الحسابات جرى تصحيحه لاحقاً، مع حكومة الرئيس تمام سلام.
اليوم، يسعى سياسيون الى استطلاع ما هو مطلوب من الانتخابات؛ فالمشهد الرئاسي أوحى لأسابيع ماضية أن الغلبة ستكون للعهد وحلفائه في ضوء التحالفات التي تبنى بين قوى 8 آذار، وزاد من تعزيز هذا الانطباع ما حصل بين السعودية والرئيس سعد الحريري. لكن استعادة السعودية لدورها ومحاولتها لملمة صفوف حلفائها، والخلاف المتنامي بين الرئاستين الاولى والثانية وما تركه الصراع بينهما من سلبيات على قاعدتهما الشعبية، لا تظهر أن الحسابات الانتخابية التي حكي عنها دقيقة، مع الاشارة الى أن قانون الانتخاب بذاته، مع كل الشوائب التي تعتريه، كفيل بخلط كل الاوراق وعدم حسم النتائج لمصلحة فئة من دون أخرى.
لكن القصة أبعد من تقنيات القانون وعثراته. فانتخابات لبنان ليست معزولة عمّا يجري حوله، من بعض التبدلات في الساحة السورية مع استعادة الدور الاميركي فيها والتدخل التركي المتجدد، وتهديدات التنظيمات الاسلامية، والانتخابات العراقية وما يجري في الداخلين السعودي والايراني. كل ذلك يضع الاستحقاق في مقدم أوراق التجاذب الاقليمي. فهل يمكن أن تعمل إيران على كسر السعودية في شكل كامل في لبنان من خلال الإتيان بمجلس موال في أكثريته لها؟
الجواب السياسي لا يبدو ميالاً الى هذا السيناريو؛ فإيران حتى الآن حصلت على ما أرادته وتريده في لبنان، وليست في حاجة الى الذهاب الى هذا الحد من التحدي، في إبعاد السعودية وحلفائها، ما دامت رئاسة الجمهورية اليوم في خانة حلفائها، وإن أي حكومة ستنتج من الانتخابات ستكون حكومة متجانسة من جميع القوى السياسية وبتوازن كامل. ولأن لبنان مؤلف من موزاييك طائفي وسياسي يختلف عن الدول التي لإيران تأثير مباشر فيها، ولأنها لا تريد تأجيجاً للصراع السنّي ــــ الشيعي، في لبنان، وبما يمكن أن يمتد منه الى دول المنطقة، تحوم الشكوك حول رغبة طهران في مزيد من التصعيد الظرفي مع السعودية.
فهذا التصعيد لا يخدم كثيراً مصالحها ــ وهي التي تتبع عادة سياسة بعيدة المدى ــ ما دام المجلس الجديد سيبقى محكوماً بالتسويات التي أثبتت فعاليتها حتى الآن، من وجهة النظر الايرانية. وهذه الخلاصة قد تكون أحد العوامل المؤثرة في مصير الانتخابات.
هل للسعودية الحسابات نفسها؟ الأكيد أن ما يحصل فيها داخلياً، وعلى الخط اللبناني، يعكس حتى الآن القراءة ذاتها، وإن يكن لأسباب مختلفة. فالسعودية تترقب أيضاً الوضع السوري واحتمالات التدخل الاميركي ومستقبله، ومصير الانتخابات النيابية ووضع القوى السنية ومصير رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وعلاقتها به. ولبنانياً، لم تتمكن بعد من تمتين عدة الشغل في لبنان من أجل تصعيد دورها في مواجهة خصومها، ومن مصلحتها أيضاً غض النظر عن أي تصعيد في لبنان، تماماً كما غضّت النظر عن تأليف حكومة الرئيس تمام سلام وانتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون. وهي بذلك تكسب وقتاً إضافيا لبلورة إمكاناتها، طالما لا يزال يفصلها عن موعد الانتخابات ثلاثة أشهر.
عند هذه النقطة يتمحور مصير الانتخابات، في ضوء دراسة الطرفين مصالحهما التي تتقاطع عند التسليم بتوازن من دون حوار مباشر بينهما. وحتى الآن لا يبدو الطرفان ميالين الى مواجهة حامية، خصوصاً لجهة إيران التي لا تبدو مضطرة الى خوض هذا الصراع ما دامت مصالحها مؤمنة على المدى القريب والبعيد.