تؤكد مراجع سياسية لبنانية لصحيفة “العرب” اللندنية أن الأزمة المندلعة حالياً بين حركة أمل والتيار الوطني الحر أخذت أبعاداً متقدمة تطال استقرار العهد برمته، ذلك أن شظايا الانفجار الذي نجم عن تسريب مسجل لخطاب وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل أثناء تجمع حزبي في منطقة البترون أصابت قصر بعبدا كما السراي الحكومي.
وتضيف هذه المراجع أن تحرك رئيس الحكومة سعد الحريري باتجاه الرئيس ميشال عون وباتجاه رئيس مجلس النواب نبيه بري أتى على خلفية إدراكه لخطورة الأزمة التي امتدت إلى الشارع اللبناني من خلال قطع الطرقات الذي قام به أنصار حركة أمل في بيروت والضاحية إضافة إلى إحراق الإطارات ومهاجمة المقر الرئيسي للتيار الوطني الحر في منطقة سن الفيل في بيروت.
ورغم أن بري وعون آثرا الصمت تاركين لماكيناتهم الحزبية التصريح والتحرك، إلا أن اللهجة العنيفة التي اتسمت بها المواقف والتصريحات تعكس تصدعاً عنيفا بين الحزبين الرئيسيين، كما بين موقع بعبدا وموقع البرلمان الدستوري، على النحو الذي يهدد المنظومة السياسية الحاكمة برمتها.
وحتى عندما خرج عون ببيانه، الثلاثاء، بدا أنه يريد تهدئة النفوس من موقعه الدستوري مقدما وجهاً متسامحاً في مواجهة الهجمات التي تعرض لها شخصيا من قبل المتظاهرين، لكنه بدا أيضا محايداً لا ينوي التدخل في ما هو “خلاف بين الفرقاء السياسيين”، بما يقصي أي ضغوط قيل إنه سيمارسها على صهره الوزير باسيل.
تدابير تصعيدية
رشحت مصادر حركة أمل أن المسألة هذه المرة ليست عادية يمكن تمريرها بتبويس اللحى، وأن الحركة جاهزة لاتخاذ تدابير تصعيدية بما فيها استقالة وزرائها من الحكومة. وتحدثت المعلومات عن فشل الحريري في إحداث أي اختراق أثناء محاولاته الأولى للتواصل مع وزير المالية علي حسن خليل المقرب من الرئيس بري، والذي عبّر من خلال تغريداته على تويتر عن غضب بري والحركة مستخدماً ألفاظاً قاسية بحق وزير الخارجية جبران باسيل.
وتقول أوساط مقربة من بري إن لزوميات الحملة الانتخابية لا تحتاج إلى تجاوز الأصول والقواعد في التحدث عن الشركاء السياسيين في البلد.
وأضافت الأوساط أن ما قاله باسيل لم يكن زلة لسان داخل اجتماع محدود مغلق، بل جاء معبرا عن قناعة تياره ومقصوداً الجهر به داخل اجتماع عام يحق للجميع تسجيله ونشره.
ولفتت هذه المصادر إلى أن وصف باسيل لبري بـ”البلطجي” يمسّ قامة أساسية من قامات الحكم في البلد كما يمس ما يمثله الرجل، ليس داخل الطائفة الشيعية في لبنان فقط، بل داخل النسيج اللبناني السياسي العام.
ورأى مرجع برلماني لبناني أن باسيل هاجم في خطابه كل الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف، بما يعني أن الرسائل التي أطلقت صوب عون استهدفت قيادات لبنانية أخرى هي ركن أصيل من أركان النظام السياسي اللبناني.
وحذر هذا المرجع من أن يتسبب الخلاف الحالي الذي تناسل من الخلاف على المرسوم الرئاسي المتعلق بضباط “دورة عون”، في شرخ خطير عشية الانتخابات البرلمانية في ايار المقبل قد لا ينتهي إلا بتفاهمات جديدة تطال اتفاق الطائف نفسه، وهو أمر لا يحتمله الداخل اللبناني كما لا تحبذه العواصم الكبرى في الظروف الدولية والإقليمية الراهنة.
موقف عون
وفيما صدر عن الحريري أنه ممنوع المس بعون وبري وعن وزير الداخلية نهاد المشنوق ورفض انتهاك كرامة بري بالذات، لم يظهر التيار الوطني الحر أي مؤشرات رسمية عن عزم على تدوير الزوايا وخفض مستوى الجدل، بل إن مصادر مقربة من باسيل أبلغت المعنيين رفض التيار للاعتذار على النحو الذي طالب به الوزير علي حسن خليل، الذي طالب باسيل بـ”الاعتذاز” للبنانيين، مضيفة أن التيار متمسك بشعاره الأصيل “لغير الخالق ما منركع”.
والواضح أن عصبية داخلية قد ترعرعت هذه الأيام داخل جمهور حركة أمل وجمهور التيار وسط غياب الموقف عند حزب الله الذي اكتفى ببيان روتيني متضامن مع بري. ويرى مراقبون أن عبثية المزاج السياسي في لبنان قلبت العصبيات العامة في الأيام الأخيرة من عداء مسيحي سني على خلفية الهجمات التي كان يشنها التيار الوطني ضد تيار المستقبل قبل انتخاب عون رئيساً للجمهورية إلى عداء مسيحي شيعي على خلفية تباين سابق ظهر في بعض المواقف بين التيار العوني وحزب الله قبل أن يتطور بشكل فاضح بين التيار وحركة أمل.
ورغم محاولة حزب الله خفض مستوى التوتر إلا أن جريدة الأخبار المقربة منه حذرت، بما اعتبر رسالة لعون، من انهيار التسوية الرئاسية في لبنان.
وتناولت الصحيفة في مقالات عدة مواقف باسيل الهجومية وردة الفعل الشعبية، واعتبرت أن التسوية التي أدت إلى انتخاب عون رئيسا للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016 مهددة بالزوال نهائيا بسبب “تصرفات باسيل، وبفعل المنطق الذي ينتهجه في الحكم”.
واعتبر عضو تكتل التغيير والإصلاح، النائب ناجي غاريوس (تكتل مسيحي كان يرأسه عون، وهو برئاسة باسيل حاليا)، أن ما قالته الصحيفة هو “نعي للجمهورية اللبنانية، وليس هناك صحيفة مخول لها القيام بهذا الأمر”.
وشدد غاريوس على أن “التسوية مستمرة، ولا صحة لكل الكلام الذي يقال عن نهايتها، لأن انهيارها سيؤدي بالبلاد إلى المجهول، ويجب على الإعلام اللبناني التنبه لهذه النقطة”.
ويختلط الشخصي بالسياسي في خلاف بعبدا (مقر الرئاسة اللبنانية) مع التيتية (مقر الرئيس بري). فعلى الرغم من التحالف الذي جمع التيار الوطني (بزعامة ميشال عون) بحزب الله (بزعامة حسن نصرالله) من خلال ورقة التفاهم الشهيرة لعام 2006، وعلى الرغم من أن هذا التحالف واجه حكومات فؤاد السنيورة وسعد الحريري وقام باحتلال الوسط التجاري في بيروت، وبارك “عزوة 7 أيار”، وعلى الرغم من أن هذا التحالف وفّر للثنائية الشيعية غطاء مسيحيا كان مطلوباً لحزب الله لإخراجه من الحيّز الشيعي ونقله إلى الحيّز الوطني العام، إلا أن الكيمياء كانت دائماً مفقودة بين بري وعون، وقد تولى حزب الله دوماً تسهيل هذه العلاقة المعقدة بين الرجلين.
ويرى بعض المراقبين أن بري الذي آخذ عون في السابق على وصف البرلمان اللبناني الممدد له بأنه غير شرعي، لم يهضم الصفقة التي أبرمها الحريري مع عون دون أي مباركة لبري لانتخاب زعيم التيار الوطني رئيسا للجمهورية. ويعتقد هؤلاء أن بري فقد بعد هذه الصفقة دوره بصفته عراب النظام السياسي اللبناني بعد اتفاق الطائف، وأنه بات متوجساً من عودة الثنائية بين الرئاستين الأولى والثالثة، أي تلك المارونية السنية، لحكم البلد، وأن مسألة إصراره على توقيع وزير المالية الشيعي على مرسوم الضباط الذي وقعه عون والحريري تعبر عن إصرار على أن يكون للشيعة القول والقرار في كافة شؤون البلد.
سيناريوهات حل الخلاف
يشير مرجع سياسي لبناني مخضرم إلى أن بري يعرف أن المرسوم لا يحتاج إلى توقيع الوزير الشيعي وأن مراجع دستورية أكدت ذلك، وأن هذا التفصيل لا شأن له بدور الطائفة الشيعية في البلد، وأن الدور العسكري والسياسي الذي يقوم به حزب الله في لبنان وخارجه يعكس إفراطاً في هيمنة الشيعية السياسية على النظام السياسي اللبناني وليس انتقاصا من هذا الدور.
ويضيف المرجع أن المشكلة الحالية تتلخص في حاجة بري إلى فرض نفسه من جديد رئيسا لمجلس النواب المقبل على كافة القوى السياسية وخصوصا التيار الوطني الحر، وفي حاجة باسيل إلى فرض نفسه زعيما للمسيحيين ووريثا لعمه (والد زوجته) ميشال عون كرئيس مقبل في بعبدا.
غير أن خبراء في شؤون السياسة اللبنانية يعتقدون أن خلاف باسيل وبري فيه الكثير من الخبث والماكيافيلية، ذلك أن هناك مفارقة في ألا يختلف عون وباسيل مع حزب الله على الرغم من الامتعاض الداخلي والعربي والدولي من ممارسات الحزب وأدواره، بينما تلهو الآلة الحزبية العونية بمماحكة زعيم حركة أمل.
أنصار حركة أمل يحتجون في بيروت
ويقول هؤلاء إن الخلاف الحالي المنفجر يمثّل نهاية طبيعية لذلك الاتفاق المصطنع الذي جمع مارونية سياسية يقودها عون بشيعية سياسية يقودها حزب الله بمشاركة حركة أمل، كما يمثل انكشاف حالة الزيف الثقيل الذي فرض على جمهور عون تقبل قيم وتقاليد وشعارات ولغة الثنائية الشيعية لأكثر من عقد، كما يكشف أيضا أن شعار الدفاع عن المقاومة لم يعد شعارا انتخابيا جاذبا للجمهور المسيحي وهو أمر يثبته مدى استفادة القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع من الشعارات المناقضة لحزب الله للغرف بوفرة من الخزان المسيحي الانتخابي.
وبغضّ النظر عن الحيثيات البنيوية لخلاف بري وباسيل، فإن الطبقة السياسية برمتها تدفع باتجاه إيجاد الشكل المناسب لوأد الخلاف الحالي ومنع تفاقمه.
وتقول بعض المعلومات إن بعض السيناريوهات تتحدث عن احتمال قيام باسيل بزيارة بري بما يشكل في حد ذاته اعتذاراً، كما احتمال قيامه بالزيارة برفقة الحريري ما يزيل أيضا البرودة في علاقة الأخير مع بري بسبب توقيعه إلى جانب عون على مرسوم الضباط المثير للجدل.
بيد أن معلومات أخرى تتحدث عن أن رئيس مجلس النواب اللبناني سيستغل دراماتيكية الأزمة الحالية من أجل العودة إلى “تصويب” التوازن من خلال إعادة “تصويب” المرسوم الشهير وفرض وضع توقيع وزير المالية عليه.
وفي تعدد الخيارات والسيناريوهات ما يشي بأن جهوداً لن يكون حزب الله بعيدا عنها، ستبذل من أجل انتشال البلد من أزمته الحالية، خصوصا وأن ما ينتظر لبنان من استحقاقات خارجية (خاصة مؤتمري باريس وروما) وداخلية (تتعلق أساسا بانتخابات 6 مايو) يتطلب تهدئة عامة باتت حاجة ملحة بالنسبة إلى كافة الأطراف.
والظاهر أن حركة الشارع قد تجاوزت ما كان مطلوبا منها وأفصحت عن حالة احتقان عند جمهور حركة أمل ضد التيار الوطني الحر، كما أن البيئة المسيحية لم تهضم قيام متظاهرين شيعة بمهاجمة مقر حزب مسيحي داخل منطقة مسيحية. وما تحقق حتى الآن هو قرار من قبل قيادة حركة أمل بسحب الناس من الشارع ووقف الاحتجاجات وإصدار بيان إدانة لمهاجمة المقرات الحزبية، في حين بدا أن باسيل استفاد من مسألة ما تعرض له المقر الرئيسي لحزبه من تضامن مسيحي فناشد مناصريه ضبط النفس وعدم الرد، بما عزز موقفه الذي قد لا يسهّل الحل في القريب العاجل.
يبقى أن في سريالية الحدث أن الرئيس الألماني الذي يزور لبنان قال، الثلاثاء، إن “لبنان لديه الكثير مما يمكن أن يقوله ويعلمه للعالم”.