يقوم تعاطي الطوائف في لبنان مع بعضها حتى اليوم على حسن النية، ولاسيما بين المسيحيين والمسلمين. وما من أحد يدرك كم سيدوم حسن النوايا ولاسيما من قبل المسلمين سنة وشيعة والذين يواصل بعض قادتهم الحديث عن الحفاظ على المناصفة مع المسيحيين وإبقاء مناصب أساسية بحوزتهم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان.
حسن النوايا هذا لا يمكن أن يغطي حقائق دامغة تترسخ يوما بعد يوم، وفي مقدمها أن الميزان الديمغرافي يميل يوما بعد يوم لصالح المسلمين، ويتحول المسيحيون يوما بعد يوم الى أقلية يتناقص عددها.
إن حسن النوايا هذا من قبل المسلمين غير كاف للحفاظ على ما يعرف بلبنان الرسالة، فحسن النوايا هذا معرض للزوال في أي لحظة، وعندها لن يكون من عائق أمام المسلمين للمطالبة بالمزيد من المواقع والسلطات وهو أمر مشروع باعتبار أنهم الأكثرية فكيف لهم ان يفرطوا بذلك!
إن وضع هذا الحديث من قبل البعض في خانة المستحيل، أو في خانة ضرب الترويج لشعار لبنان يحلق بجناحيه المسلم والمسيحي، أو في خانة التخوين واستلهام الطروحات الاسرائيلية، ما هو إلا عملية إخفاء للمشكلة الحقيقية التي ستطرأ بعد سنوات، وإن لم تكن قد عولجت سابقا فستؤدي إلى المزيد من عدم الاستقرار في البلد. فالاستقرار والتعايش لا يعني ان تسيطر طائفة أو فئة على فئات أخرى في البلد، لاسيما وأن كل طائفة او فئة تنظر إلى لبنان في مختلف المجالات نظرة تختلف عن نظرات الشركاء الآخرين.
وانطلاقا من هذا الواقع لا بد من التفتيش بكل جرأة عن صيغة جديدة للتعايش وحكم لبنان تحترم خصوصية كل من المسيحيين والمسلمين، ولا تجعل اي طائفة تطغى على الأخرى، حتى ولو كان الأمر يستلزم تعديلات جذرية في اتفاق الطائف، فالمهم ليس هذا الاتفاق، بل استمرار لبنان كمكان يشكل بالفعل مختبرا للتعايش المسيحي الاسلامي في ظل نظام لا يعطله أي خلاف فيؤدي الى شلل على مستوى البلد ككل.
إن اتفاق الطائف نص على اللامركزية الادارية، ويستحسن ان تكون موسعة، وهنا تبدا الخطوة الأولى لإيجاد هذا النظام الجديد، إذ لا ضير في أن يسير كل قضاء او محافظة شؤونها المختلفة بنفسها، ومن مواردها المالية وبقدراتها والمرافق الموجودة على أرضها، وهو ما يحرر المواطن اللبناني من مركزية إدارة لم تنجح يوما في إدارة شؤونه كما يجب.
إن النجاح في هذه الخطوة الادارية يفتح الباب على الخطوات السياسية، فنحن اليوم نعيش في ظل انقسام سياسي وديني ومناطقي حاد يؤدي الى توترات ومشاكل لا تنتهي، وتهدد في كل لحظة بتفجير البلد. وهنا يمكن التنفيذ الحقيقي لمخططات إسرائيل في عدم استقرار لبنان ونموه الاقتصادي.
إن تنظيم هذه الخلافات في صيغة حكم ونظام جديدة للبلد هو الوحيد الكفيل بإحداث نهضة على مستوى كل المناطق، والابتعاد عن حروب وأزمات ستبقى موجودة طالما بقي الصراع السياسي والمذهبي موجودا، وطالما بقيت الخلافات بين سلطات السلطة المركزية حول تفسير الصلاحيات والدستور.