Site icon IMLebanon

سنن دريان الجديدة في دار الإفتاء: العمامة تحمي الزعامة

كتب زياد البابا في صحيفة “الاخبار”:

لم يسبق لدار الإفتاء أن حازت استحساناً وطنياً بالقدر الذي هي عليه الآن. تحولها إلى محط للأنظار ومثار اهتمام المراقبين صاغته أحداث ومواقف عدة. الحديث عن أفق متميز لها في هذه المرحلة لا يعني انتقاداً لما كانت عليه سابقاً. ثمة أحاديث كثيرة في البلد عن أن المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان تنبّه إلى خطورة تعدد المسالك الموصلة إلى دار الفتوى.

ومنذ عقد العزم على التصدي لمهمته التي تكللت بانتخابه في آب 2014 كان قد قرر كما أن للقِبلة الدينية وجهة واحدة يحددها الموقع، فإن القبلة السياسية ستكون لبنان واستقراره أولاً للعبور بالبلد وأهله من دائرة الجحيم التي كانت قد أطلت نذرها على لبنان من الضنية أواخر عام 1999 وقبل نحو عام وعشرة أشهر من اعتداءات 11 أيلول.

ثمة أحاديث عن تأثير بالغ لوزير الداخلية نهاد المشنوق في أداء دار الفتوى، ما دفع بمراقبين الى وصفه بـ»المفتي السياسي». حضور المشنوق وتأثيره في تظهير حقيقة موقع دار الإفتاء ودوره الوازن في ضبط جموح الفرق الإسلامية، على تنوع هوياتها ومسمياتها، يعيدها البعض الى خلاصته الخاصة عن تلك الزلّة التي وردت في بيان قمة مرجعية في كانون الثاني 1976 من أن «المقاومة الفلسطينية هي جيش المسلمين في لبنان».

سبق المشنوق القوى الأمنية باستشعاره خطر نمو السلفية الجهادية ومتفرعاتها التكفيرية. أولى الدلالات التي تلمّسها كانت في رصده مجموعة خطب بثت من مسجدين في الشمال، إحداها لداع سلفي من آل المرعبي، والثانية لـ»أبو ابراهيم» إمام مسجد طينال في طرابلس. قاطع الرجل ما عثر عليه مع ما سمعه شخصياً من «مسؤول أمني كبير» على حد وصفه، من أن هناك العشرات من الفلسطينيين والأردنيين يدخلون لبنان بداعي السياحة، فإذا بهم يختفون في المخيمات وفي مقارّ إسلامية. رفع الصوت متسائلاً عن آليات المواجهة دينياً وفكرياً وأمنياً. لكن السؤال ارتد صدى على أذنيه ليصمهما لاحقاً في الحرب على الإرهاب عند الحدود الشرقية والشمالية مع سوريا.

أيا تكن دالة الرجل، يبقى أنه أول من نبه إلى خطر هذا «التسنن» على أهل السنة عامة و»عصبية الحريرية السياسية» خاصة. لكن أحداً لم يقم لكتاباته في «النهار» و»السفير» اعتباراً. فمحيط الرئيس سعد الحريري كان آنذاك في غالبه يمقت الرجل وينبذه.

ومن يتابع أداء دار الإفتاء، يدرك أن مفتيها الشيخ دريان افتتح أداءه بالمدرسة الأزهرية التي بدأ فيها علمه وفيها أنهاه، وإن توسطتها شهادة في أصول الدين والشريعة من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في السعودية. وإذ ناصبه «الإخوان المسلمون» ــ بفرعهم اللبناني المسمى «الجماعة الإسلامية» ــ العداء منذ القرار بانتخابه واتهامه بـ»الخضوع» لتأثير رجال السياسة لكون ثلث الهيئة الانتخابية من السياسيين، فإنه رد على استعدائه بإعلان محاربة التطرف والإرهاب في خطاب تنصيبه، وكذلك إعلان الالتفاف حول الجيش لسد الثغرة الكبيرة التي برزت في أحداث 2014 في طرابلس إثر إصدار «هيئة العلماء المسلمين» بياناً أدانت فيه ما وصفته «تجاوزات قوى الأمن» وعملية الجيش «غير العادلة والمسيئة» في طرابلس.

إمساك المفتي دريان بأعنّة دار الفتوى ووضعها على ناصية سلامة لبنان واستقراره خلّفا مرارات وخيبات كثيرة على وجوه رجال دين ما تركوا شعوراً غرائزياً إلا استثاروه ضده، حيناً بدعوى أصوله البيروتية وافتقاره الى شرعية شعبية في طرابلس التي راح يتصدر صورتها وصار مرافقاً لاسمها الشيخ السلفي سالم الرافعي. وأحياناً بدعوى أنه نتاج إدارة مصرية لعملية وصوله بالتنسيق مع السعودية وحتى مع سوريا، علماً بأن أصحاب هذه الحملة غالباً ما صنفوا بأنهم «صوت قطري» في لبنان يرتفع كلما ارتفعت حدة الخصام على سوريا بين الدوحة والرياض.

لم يُعر دريان الحملات الشخصية ضده أي انتباه. اندفع لكي يسنّ سنّةً جديدة في دار الإفتاء. فهو يدرك حجم التحديات التي تواجهه، إذ وصل بينما كان بعض «التسنّن» قد تورط حتى أسنانه بعمليات الإرهاب وبات مسلحاً يستقطب من أثّرت فيهم دعوات الإحباط واليأس ويمدهم بالمال ويعدهم بجنات تصول فيها حور العين. الفراغ الذي حاول المتطرفون ملأه سده دريان بسرعة. لم يترك اتجاهاً إلا سلكه:

– بادر الى إطلاق قمة مسيحية – إسلامية.

– تواصل مع كل التلاوين اللبنانية الروحية والسياسية.

– زار المفتي الجعفري الممتاز الشيخ عبد الأمير قبلان وأكد من عنده أن التطرف والغلو عدوان لكل الأديان.

– استقبل وفداً من قيادة حزب الله، مُسقِطاً ما قيل عن أن انتخابه جاء تثبيتاً لهزائم الحزب في سوريا وتكبده خسائر نوعية نزلت ببعض قيادييه.

– شدد على أن الطائفة السنية هي ضمانة للاعتدال والوطنية والولاء للدولة.

في الخلاصة، أضفى دريان على موقعه هالة ومناعة حالت في أوقات كثيرة دون سقوط أهل السنّة في «وهم الإحباط» الذي اخترعته دولة من هنا، وساقته دولة من هناك.

خلال أزمة احتجاز سعد الحريري في السعودية، بدا الشيخ الأزهري وحيداً وسط عاصفة سياسية تهدد لبنان بحرب أهلية راحت ملامحها تزداد قساوة ووضوحاً عبر تبني بعض الداخل وجوب قبول الاستقالة واعتبار مفاعيلها نافذة من دون الأخذ بالاعتبار المعنى السياسي والدستوري لما حصل في بيان تلاه رئيس الحكومة متلعثماً ومتفاجئاً ببعض عباراته الغريبة على قاموسه السياسي.

لكن ما حصّن موقف دريان وزاد من حكمته، عدم استعجاله اطلاق الموقف على انفعال، وترويه الى ان أطل المشنوق من رحاب الدار ليعلن ان لبنان في أزمة وطنية تستوجب التنسيق مع المفتي، مؤكداً ان لبنان قائم على الانتخابات لا على المبايعات، ليسقط بذلك محاولة الانقلاب على الحريري عبر شقيقه الأكبر بهاء.

في حمى أزمة احتجاز الحريري، تسلح دريان بتفهمه لأسباب الاستقالة من دون ان يتبناها. لكن مع عودة رئيس الحكومة الى بيروت، أعلن مفتي الجمهورية ما لم يكن يوماً متخيلاً ان يحدث. إذ سجل فعلاً سياسياً خالصاً في مناسبة دينية هي الأكثر دلالة. ففي ذكرى المولد النبوي، وداخل قاعة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في مسجد محمد الأمين، عمد الى تولية سعد الحريري زعيماً سياسياً «شاء من شاء وأبى من أبى» ووصفه بـ»رجل المواقف الوطنية الخالصة».

لبنانية دار الفتوى

الانتماء الى «اللبنانية» على ما تقوم به دار الفتوى، لا يعني ان السنّة يحوزون الجنسية من طريق دائرة النفوس بقدر ما يعني نمطاً للعيش يتشاطره سكان البلد بأفراحه وأتراحه قبل أي شيء آخر. ولم تكن دار الفتوى مرةً على هذا الوضوح السياسي الفريد في مقاربتها وقائع الشأن اللبناني العام من خلال تعيين المعنى السياسي لاستقالة الحريري من عاصمة دولة ثانية تدّعي الرعاية والاحتضان.

بعض من تاريخ هذا الدار مثار جدل بين أبنائها عن تطويعه، حيناً من الرئيس رياض الصلح، وأحياناً من رئيس الجمهورية السابق فؤاد شهاب الذي قايض على مواكبته بإدراج مستوى معين من الشرعية الدينية على مشروعه الإصلاحي، ودائماً من الرئيس الشهيد رفيق الحريري لتغطيته من مشروع سوليدير حتى لقاء البريستول.

قدرة دار الفتوى حالياً على صناعة الدور تبرز أن المفتي دريان تصرف انطلاقاً من موقعه وما يمثل وليس بوصفه موظفاً لامعاً. خبرته صقلتها المناصب المتعددة التي شغلها مع المفتين السابقين، الشهيد الدكتور حسن خالد، ثم الدكتور محمد رشيد قباني. قبله، عرفت دار الفتوى حملات عدة. بعضها التصق فيها عن غير حق أو عكسه. الشيخ خالد اتهم بتفضيل الفلسطينيين المسلمين على مواطنيه اللبنانيين المسيحيين، ووصف بأنه مُبدل الولاءات، فبعدما ودع ياسرعرفات من بيروت (1982)، ثم من طرابلس (1983)، توجه الى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في عام 1987 يطلب عوناً أمنياً وعسكرياً بعدما بُترت «المرابطون» كآخر أذرع «ابو عمار» اللبنانية. أما قباني، فلم تكن الحملات التي طاولته أقل ضراوة من سلفه.

لكن ما يجمع بين الاثنين ويميّز دريان، هو أن خالد وقباني وازنا على الدوام بين الأزهر بتعبيره المصري السياسي لجهة نبذ «الإخوان المسلمين» وبين السعودية رحم الجماعات الوهابية والتكفيرية، لكن مع ميل تفضيلي دائم إلى الرياض ثم إلى أبو ظبي لاحقاً لقدرتهما وجاهزيتهما الدائمة على تقديم الأموال والمساعدات. أما المفتي دريان فقد ذهب مذهباً مختلفاً.