كتبت زينب سرور في صحيفة “الأخبار”:
لا تعلم جينيت أنّ اقتصاد بلدها هو الأسرع نموّاً في العالم لهذا العام. جلّ تركيزها اللّحظة على تثبيت خصلاتٍ من شعرٍ مستعارٍ بنّي اللّون على رأس شابّةٍ بين يديها. تستخدم الإبرة والخيط لذلك. كمن يحوّل قطعة قماشٍ إلى فستانٍ أنيق، تُدخل مزيّنةُ الشعر الإثيوبيّة بعنايةٍ خيطَها الأسود المشبوك بإبرةٍ كبيرةٍ في خصلة «ويغ» أنهتها للتّو، ثمّ تخرجها من الجهة المقابلة. بتكرار العمليّة، تتشبّثُ الخصلات المستعارة بالشّعر الأصلي.
الشّعر المستعار قديم، يبلغ من العمر سنة، فلا قدرةَ للزّبونة جينّيت على شراء خصلاتٍ مستعارةٍ حديثة. الكلفة مرتفعة والدّخل محدود.
تماماً كجينّيت، لا تملك الإثيوبيّات من عاملات المنازل في لبنان القدرة على جعل شعرهنّ أكثر كثافة من خلال شعرٍ مستعارٍ جديد. على المئة وخمسين دولاراً التي يتقاضينَها أن تُصرف على أشياءَ أكثر أهميّة، العائلة مثلاً.
تتمركز خصلاتُ الشّعر المستعارة الحديثة في إحدى زوايا الصّالون. تلك مخصّصة لمن استطاعت إليها سبيلاً، سواءً كانت من الإثيوبيّات أو غيرهنّ. من ذاك المحلّ الصّغير في منطقة بدارو تدير جينيت حياتَها. تتعرّف إلى الرّفيقات، تتحدّث لغتَها الأمّ من دون حاجةٍ إلى شرحٍ وتفسير، تستمع إلى موسيقى بلدها، تبتسم لذكرياتها وتتألّم، تقول أشياءَ كثيرة وتتحفّظ عن أشياءَ أكثر، وتحلم.
بينما تسرد قصّتها، لا تأخذ جينيت استراحة. تتوقّف لالتقاط نظرات مُحاورها وحسب. لم تعمل يوماً في المنازل. لا هناك ولا هنا. دفعها شغفُها بالتّزيين النّسائي لدراسته. خمسُ شهاداتٍ في التّزيين هو العدد الّذي حصدته المغتربةُ الإثيوبيّة من معهد «بيوتي سنتر» Beauty center في منطقة الشّويفات. دروسٌ في فنّ المكياج والأظافر والوشم على الجسد واظبت عليها جينيت لسنوات.
منذ خمسة عشر عاماً أتت إلى لبنان. تعرّفت إلى رجلٍ لبنانيّ فقرّرا الزّواج. لا يملك زوجها عملاً، لم يملكه يوماً. هي المعيل. ومع ذلك لم تحصل على إقامة. تتذمّر من قانونٍ متخلّفٍ منع عنها حقّ الحصول على إقامة مقابل واجب دفع الضّرائب. لها رغبةٌ شديدةٌ في المغادرة لرؤية عائلتها، لكن ما يحدّ تحقيقَ الرّغبة ابنُها البالغ من العمر أربعة عشر عاماً.
«إذا بفل، ما بضل حدا يعين إبني». تقول جينيت مانعةً الحديث من الغوص في تفاصيل شخصيّة.
لسنا عاملات منازل وحسب
لصالونات إثيوبيا في بدارو، لكنيستها فيها، ولشوارع بدارو، فضلٌ في تأمين متنفّسٍ للإثيوبيّات. هذه المنطقة المسيحيّة الطّابع تجمعهنّ، خصوصاً أيّام الآحاد وخلال الأعياد. لجينيت دورٌ في ذلك. داخل صالونها تحدث لقاءات، تدور أحاديث، ويتمّ التّخطيط للحفلات. تحبّ جينيت الغناء. أسفل عبواتٍ وزيوتٍ مخصّصة للشّعر التّالف ملصقٌ يعود إلى شهر نيسان الماضي. عليه عباراتٌ باللّغتين الإنكليزيّة والأمهريّة (لغة إثيوبيا الرّسمية) وتتوسّطه صورتان لمغنّيين إثيوبيّين هما: تاريكيجان مولو Tarekegan Mulu وأبدوكيار Abdukiar . يدعو الملصق إلى حفلةٍ للرّجلين في مجمع ميشال المر. تشرح جينيت أنّ الرّجلين من أفضل مغنّي إثيوبيا وأنّ حفلتهما جذبت كثيراً من أبناء الجالية الإثيوبيّة في لبنان.
حبّ جينيت للغناء والاستعراض يدفعها لإقامة حفلاتٍ في «راديو بيروت» بمنطقة مار مخايل. تذهب إلى هناك مرتديةً الزّيّ الإثيوبيّ التّقليديّ. ثوبٌ طويلٌ ذو لونٍ موحّد تتوسّطه ألوانٌ دائريّةٌ كبيرة. تدعو الرّفيقات من مختلف الجنسيّات، إثيوبيّات، فيليبينيّات، ولبنانيّات إلى المكان. تقيم بوفيه مفتوحاً، هي الطّبّاخة الماهرة. وتبدأ حفلة الرّقص والغناء الإثيوبي التّقليدي حتّى ساعات الصّباح.
في زوايا صالون جينيت تتوزّع القصص. صحيحٌ أنّ الصالون يُعدّ نقطة جذبٍ للإثيوبيات في المنطقة، لكن ليس وحده المقصود. في بدارو صالونات عدة تديرها إثيوبيّات. في تلك الصّالونات تنتعش روح أديس أبابا. تشكّل تلك الأمكنة مساحةً صغيرةً لممارسة حياةٍ وثقافةٍ يُراد لها في بلاد الاغتراب أن تقتصر على العمالة المنزليّة. الإثيوبيّات لسنَ «عاملات منازل» فحسب.
تلك مهنة، والفرد لا يُختزل بمهنته. هذه تفرضها الظّروف. في لبنان جالية إثيوبيّة متعدّدة المشارب والمهن والاهتمامات والتّوصيف، وإن كانت الغالبيّة من تلك الجالية اضطرّت للخدمة في المنازل.
الاقتصاد الأسرع نموّاً؟
أتعب لبنانُ جينيت. خيّب أملَها وأملَ الكثيرات من أبناء جلدتها. لا تعرف جينيت أنّ اقتصاد بلدها هو الأسرع نموّاً في العالم لهذا العامّ. حال اقتصاد إثيوبيا من حال اقتصاد إفريقيا وشرق آسيا. على عكس اقتصاد منطقة الشّرق الأوسط المتهاوي، ولبنان منها. يقول تقريرٌ صدر في شهر حزيران أعدّه فريقٌ من «البنك الدّوليّ» بالشّراكة مع فريقٍ خارجيّ بعنوان «آفاقٌ اقتصاديّة عالميّة» إنّ اقتصاد إثيوبيا هو الأسرع نموّاً في العالم. وعلى الرّغم من أنّ «البنك الدولي» يشير في مقدّمة التقرير الواقع في 138 صفحة إلى عدم تبنّيه بشكلٍ قطعيّ النّتائج الّتي توصّل إليها الفريق. وعلى الرّغم من تسارع نموّ اقتصاد البلد، ما زالت الهجرة حلمَ الإثيوبيّين.
حلم الهروب
جينيت بعيدةٌ عن الأرقام والتّقارير. حالها من حال عشرات آلاف الإثيوبيّين. هي تسعى فقط إلى تأمين حياةٍ لائقة. تُنهي جينيت حياكة شعر جينّيت. يبدو جميلاً. تنظر الزّبونة بزهوٍ إلى نفسها في المرآة. تمعن النّظر، فهي المرّة الأخيرة الّتي تسرّح شعرها في لبنان. تبتسم بهدوء. في اليوم التالي، تمّ ترحيلها إلى بلدها مع 150 إثيوبيّةً. هل ستكونين في حفلة الوداع داخل المطار يا جينيت؟
«بالطّبع سأكون، فبينهنّ الكثير من الصّديقات».