كتبت راغدة درغام في صحيفة “الجمهورية”:
أمام روسيا فرصة مميّزة لقيادة التهدئة والتّوعية بين الأطراف الإقليمية التي تتشابَك في سوريا ولنقل العلاقة الروسيّة – الأميركيّة الثنائية من التشنّج الى التفاهم. هذا يتطلّب من الرئيس فلاديمير بوتين أن يتصرَّف كرجل دولة وليس كرئيسٍ يُتقن فنّ المناورة- وهو قادر لو اتّخذ القرار.
نوعيّة علاقات روسيا بكلّ مِن إيران وإسرائيل وتركيا تُفسح المجال لنفوذٍ ليس متوافراً لدى الولايات المتّحدة التي هي في تحالفٍ عضوي مع إسرائيل وعلاقة متقلّبة مع تركيا وعداءٍ مع ايران، بينما روسيا تتحالف مع إيران في سوريا وتتآخَى مع إسرائيل وتركيا حسبما تتطلّب الحاجة.
ليس هناك ما يُفيد بأنّ إيران وإسرائيل قرَّرتا تفكيك التهادنية المعهودة بينهما أو تجاوز الخطوط الحمر، مع أنّ هناك دوماً خطر الانزلاق غير المتعمَّد الى حروبٍ غير مقصودة.
هناك ما يُفيد بأنّ الولايات المتّحدة تُراعي كثيراً المصالح الروسيّة في سوريا لكنّها تتحفّظ جداً على امتيازاتٍ إيرانية ميدانيّة في سوريا تُكبّل مشروع «الهلال الفارسي» الممتدّ من طهران إلى «حزب الله» في لبنان. من المستبعد أن يتّخذ الكرملين قرار الانفصال عن إيران الحليف الميداني المحافظ على المصالح الروسيّة في سوريا والشّريك عند الحاجة في تهديد المصالح الأميركيّة.
لكن من الممكن للديبلوماسيّة الروسيّة أن تُنبّه إيران الى مغبَّة الافتراض أنّ إدارة ترامب نمرٌ من ورق أو أنّها ستتراجع أمام الاستقواء الإيراني. هناك في طهران مَن يُراهن على تفاهمات ضمنيّة مع إسرائيل لإخماد انفعال إدارة ترامب ولا سيّما من خلال استيعاب حماستها للانقلاب على قرارٍ استراتيجيّ أميركي دَعمَ التهادنيّة الإيرانية- الإسرائيلية في عهدَي جورج دبليو بوش وباراك أوباما.
وهناك في عواصم خليجيّة وغربيّة مَن يؤكّد أنّ القرار الأميركي الاستراتيجي الجديد عنوانه التحوّل والعدول عن دعم التهادنيّة الإسرائيلية- الإيرانية. أحداث الأيام القليلة الماضية التي شهدت إسقاط طائرة إسرائيلية بصاروخٍ سوريّ روسيّ الصنع وغارات إسرائيليّة على مواقع إيرانية في سوريا تستحقّ قراءةً واقعيّة للوضع الراهن وللاحتمالات الممكنة.
روسيا، بحسب خبراء روس، تُفكّر في عرض مبادرةٍ جديدة لحلول بتنازلاتٍ مؤلمة من الطّرفين الإيراني والإسرائيلي لحلّ الخلافات بينهما تجنّباً للانزلاق إلى مواجهات بينهما في الساحة السورية أو في لبنان. إسرائيل لا تُبالي كثيراً بالأولويّة الإيرانية المتمثّلة ببقاء بشار الأسد ونظامه في السّلطة حفاظاً على المصالح الإيرانية، وهي عملياً وفعلياً لا تُعارض استمرار الأسد ونظامه لأنّه لا يُهدّدها ولا تحتجّ على بقاء إيران في أرض الشام لأنه يُناسبها.
في الماضي، كان «المحافظون الجدد» في عهد جورج دبليو بوش يُروّجون لامتداد «الهلال الشيعي» من إيران الى إسرائيل باعتبارهما شريكَين طبيعيَّين في وجه امتداد التطرّف السنّي.
حرب بوش في العراق قدَّمت الى إيران هدية نفوذٍ استراتيجي ثمين، إذ أنهى صدام حسين العدو اللدود لطهران، وحرب الرئيس الأميركي في أفغانستان قضَت على طالبان العدوّ الآخر لإيران. إسرائيل كانت موافقة تماماً على الإجراءات الأميركية التي أعطَت طهران زخماً إقليمياً وهي لم تُعارض جدّياً إقبال باراك أوباما بشغفٍ على صفقة العلاقات الثنائية الأميركية- الإيرانية وإبرام الاتّفاقيّة النووية مع طهران.
بعد حرب 2006، تمّ التوافق على القرار 1701 الذي نظَّم الهدنة الدائمة بين «حزب الله» وإسرائيل التي انطوَت على تحييد صواريخ «حزب الله» بما لن يمسّ إسرائيل. بقيَت إسرائيل صامتة لا تتدخّل بقرار إيران و«حزب الله» خوض الحرب السورية. توصَّلت إلى تفاهمات مع روسيا حول آفاق وجغرافيا معارك «الحرس الثوري» الإيراني و»حزب الله» اللبناني في سوريا وحصلت على ضمانات في هضبة الجولان بالذات.
وهكذا اطمأنّت إسرائيل الى تأكيداتٍ بأنّ التوسّع الإيراني في سوريا ليس موجّهاً ضدّها وهدفه ليس المواجهة معها. واطمأنت إيران إلى أنّ إسرائيل لن تقطع الطريق عليها في سوريا، وأنّها ستلتزم بالهدنة مع «حزب الله» في لبنان.
التّغيير أتى نتيجة القرار الاستراتيجي الجديد لإدارة ترامب نحو إيران والذي يَنبثق من إعادة خلط أوراق التحالفات والأولويّات مع دول منطقة الشرق الأوسط والخليج.
الرجال الفاعلون في إدارة ترامب هم من المؤسّسة العسكرية الأميركيّة التي تُفكّر بالمصلحة القومية الأميركية وبالمصالح الاقتصادية والاستراتيجيّة على المدى البعيد وعلى المدى القصير. إسرائيل مهمّة دائماً لأيّة إدارة أميركية وهي مسألة داخليّة في السياسة الأميركية.
إنّما هذا لا يَعني أنّ أميركا تربّط أياديها كاملة حسب مقتضيات الأولوية الإسرائيلية. إدارة ترامب تنظر الى المصالح الأميركية من زاوية احتواء الطموحات الإيرانية الإقليميّة والتصدّي للتجاوزات الإيرانية وتدخّلات «الحرس الثوري» في العراق واليمن وسوريا وكذلك لنشاطات «حزب الله» الإقليمية والدولية.
هنا ارتطمت الأولويات الأميركية مع الأولويات الإسرائيلية.
بين أهمّ الأسئلة المطروحة هو ما إذا كانت إسرائيل جاهزة للانفصال عن القرار الاستراتيجي الأميركي نحو إيران ومشتقّاتها، أو إن كانت تَجد مصلحتها القوميّة في صفقة احتواء الصواريخ واحتواء الحروب مع إيران.
الاحتكاكات التي حصلت بين إسرائيل وإيران في سوريا بقيَت تحت السّيطرة لأنّ كلاهما استنتجَ أنّه لا يُريد أن يتصادم مع طرفٍ قادر على إيذائه. اختبر أحدهما الآخر إمّا للتعرّف الى مدى الرّد أو تلبيةً لرغبات كي يُعطى الانطباع بأنّهما ليسا شريكين في المعادلة.
إنّما ماذا لو كان القرار الأميركي حازماً لجهة قطع الطريق على إيران في سوريا؟ ماذا لو كان الاستنتاج الإسرائيلي ما بعد الاحتكاكات الأخيرة أنّ خطر القواعد الإيرانية في سوريا حقيقيّ وأن لا مجال للتعايش مع الصواريخ الإيرانية داخل سوريا أو داخل لبنان؟
وماذا لو استخلصَت إيران أنّ روسيا هي حاميها في سوريا مهما حصَل وأنّها ستمضي في دَعم «حزب الله» في تخزين الصّواريخ والأسلحة الثقيلة في لبنان كما ستُصرّ على تطوير أسلحتها الصاروخيّة؟
هذه أسئلة جدّية تستحقّ توقّف الجميع عندها، بالذات روسيا التي هي مصدر الثقة الإيرانية العارمة في سوريا. فمصلحة روسيا تقتضي ألّا تتصرَّف إيران في سوريا بمكابرة أو بإفراط كي لا تتّخذ واشنطن قراراً عسكرياً، إمّا عبر إقناع إسرائيل به، أو رغماً عنها إذا تردَّدت عبر التّحالف الدولي.
بإمكان موسكو أن تتصرَّف بحزم مع حليفها الإيراني وشريكها التركي وصديقها الإسرائيلي، وبهذا تحصد على صعيد العلاقة الروسيّة – الأميركية وتُعالج الخلل والتوتّر الذي يَعتليها. أولى المحطّات هي في القرار الروسي نحو الطّموحات الإيرانية السورية والإقليميّة لأنّه بيت القصيد في مسيرة العلاقات الروسية- الأميركية الثنائية.
الرّدع الأهمّ لعدم الانزلاق الى الحروب الهاربة هو ضرورة الإقرار باستحالة الانتصار.