كتب حسن عليق في صحيفة “الأخبار”:
ما الذي حمله دايفيد ساترفيلد إلى بيروت في زيارته الأسبوع الفائت؟ لا تستقيم الإجابة بلا وضع أساس لها: مساعد وزير الخارجية الأميركي أتى إلى لبنان من فلسطين المحتلة. حمل الرجل موقف العدو الإسرائيلي، وسوّقه في لبنان بصفته موقفاً أميركياً. يتبنى ما يريده العدو، ويقول إنه وسيط، ثم يهدد لبنان إذا رفض ما يعرضه كـ”وسيط نزيه”.
جال ساترفيلد على الرؤساء الثلاثة، ووزراء الداخلية والخارجية والطاقة، والتقى عدداً آخر من المسؤولين. ملفات كثيرة في جعبته، يتمحور بعضها حول قدرات المقاومة التي تقلِق العدو. لكن أبرز ما طرحه متصل بقضية الحدود البرية والبحرية مع فلسطين المحتلة، وبملف النفط. الأمران متداخلان. لكن تجميع ما قاله ساترفيلد في عدد من لقاءاته يُظهر الوقائع الآتية:
أولاً، حاول الموفد الأميركي الفصل بين الحدود البرية والحدود البحرية. قال إن الأولى قصتها «محلولة: طلبنا من إسرائيل عدم بناء الجدار الحدودي في النقاط المتنازع عليها. وأصلاً، النزاع على 12 نقطة محسوم لمصلحتكم أو لمصلحة الإسرائيليين. تبقى نقطة واحدة، قرب رأس الناقورة. وحلّها سهل».
النقطة الأخيرة، تتصل اتصالاً بنيوياً بالحدود البحرية بين لبنان وفلسطين. فتحريكها جنوباً أو شمالاً يؤدي إلى تعديل الحدود الجنوبية للمنطقة الاقتصادية البحرية الخاصة بلبنان، إما لمصلحته، أو لحساب ما يحتله العدو.
ورغم ذلك، طلب ساترفيلد من الجانب اللبناني الفصل بين المسارَين. المسار الأول، برأيه سهل. أما المسار الثاني، فلا يحتاج إلى نقاش. ففيما جرى الترويج، من قبل الأميركيين ومسؤولين لبنانيين، لزيارة ساترفيلد بصفتها مهمة وساطة بين لبنان و«إسرائيل»، اتضح أن الرجل حمل عرضاً وحيداً غير قابل للرفض. أمام جميع الذين التقاهم، قال إن الحل الوحيد لأزمة الحدود البحرية هو بالعودة إلى «خط فريديريك هوف». والأخير هو الموفد الأميركي الذي سعى قبل أكثر من 6 سنوات لترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو. وفي عام 2012، رسم خطاً في البحر، يمنح لبنان 60 في المئة من المنطقة التي يطالب بها العدو، ويعطي الأخير ما بقي، أي نحو 40 في المئة. تحفّظ لبنان الرسمي حينذاك، معتبراً أن خط هوف غير منصف. فهو في النهاية يقتطع نحو 350 كلم مربّع من المياه الخاصة بلبنان، وينقل ملكيتها إلى «إسرائيل». والحديث هنا عن المساحة البحرية التي يُحتمل أن قعرها يخبئ الكميات الأكبر من النفط والغاز، مقارنة بباقي أجزاء المنطقة الاقتصادية اللبنانية.
تحدّث ساترفيلد بأكثر من خطاب أمام المسؤولين اللبنانيين. قال للجميع إن «خط هوف هو الحل الوحيد، وإن هذا الخلاف لا يستدعي القيام بوساطة. وإذا رفضتم الحل، فلا الولايات المتحدة، ولا الأمم المتحدة، ستتدخل كوسيط». وتدرّج ساترفيلد في نبرة التهديد. قال للبعض إن «رفض خيار هوف يعني أن أي شركة لن تشارك في استخراج الغاز والنفط في البلوكات الجنوبية اللبنانية». فيما قال لمسؤولين آخرين إن الرفض اللبناني يعني عدم مشاركة أي شركة أميركية في أعمال التنقيب عن الوقود الأحفوري قبالة السواحل. وأمام بعض المسؤولين، هدّد بـ«عدم قيام أي شركة أميركية بالاستثمار في لبنان، لا في قطاع النفط والغاز، ولا في غيره». أما الذين كانوا «غير متسامحين معه»، فاكتفى أمامهم بعرض الوقائع، تاركاً حسم الأمور لرئيسه، وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، الذي سيزور لبنان بعد يومين.
في مقابل تهديدات ساترفيلد، الموقف اللبناني ليس موحّداً. ثمة قوى سياسية، كتيار المستقبل وبعض التيار الوطني الحر، ترى أن «خط هوف فرصة للبنان. فمن دون حل النزاع، لن نستفيد من الثروة المدفونة تحت مياه البحر، فيما عدوّنا سبقنا باستخراج النفط والغاز». وفي المقابل، يتمسّك رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والرئيس نبيه بري، بالمساحة الكاملة للمياه اللبنانية، مؤكدين أن «العدو يريد اغتصاب جزء من حقنا». وبسبب هذا الاختلاف في الآراء، لم يصدر عن لقاء الرؤساء الثلاثة في بعبدا أمس موقف موحّد من «عرض» ساترفيلد.
وفيما تستمر المشاورات في هذا الصدد، تكمن في تفاصيل القضية مشكلة من نوع آخر، أكثر تعقيداً من رسم خط الحدود البحرية: فسواء اعتمدنا خط اللبناني للحدود، أو الخط الإسرائيلي، أو خط هوف، ثمة أربعة مكامن للغاز تحت البحر، عابرة للخطوط الثلاثة. وفي حالات مماثلة، كما بين قطر وإيران في الخليج، ينبغي عقد اتفاقات بين الدولتين المعنيتين، لتقاسم النفط والغاز في المكامن المشتركة. فهل يهدّد ساترفيلد لبنان لفرض خط هوف، أم أن هدفه الأبعد هو استدراجنا لمفاوضات ثنائية مع العدو، تحت عنوان «فرص السلام الكامنة في أعماق البحر»؟