صعبٌ تصوُّر بروز ترطيبٍ سريع لأجواء العلاقات الأميركية – الروسية المتشنّجة وسط تنامي تعابير الغضب الروسي من «وقاحة وصلافة» الأميركيّين في زعمِهم أنّهم لربّما خسِروا المعركة في سوريا لكنّهم في نهاية المطاف كسبوا الحرب، ولذلك يتصرّفون بثقةٍ عارمة ويَضعون «الشروط التعجيزيّة» لعلاقة روسيّة – أميركية أفضل. تعابيرُ السخط الأميركي من «مراوغة واحتيال» الروس في تعاطيهم مع ملفّ سوريا ليست أقلَّ حدّةً من المشاعر الروسيّة، ممّا يترك الانطباع بأنّ المسافة شاسعة بين واشنطن وموسكو وأنّ الفجوةَ لا يُمكن ردمُها. إنّما من التسرّعِ الافتراض أنّ البيت الأبيض والكرملين جاهزان للطّلاق التام أو أن لا مجال لإصلاح العلاقات. أرضيّة التفاهمات مُتاحة إذا هبَط الطرفان عن عرش الغرور وعالجا الخلافات بعقلانيّة بعيداً عن التزمُّتِ والشكوك التقليديّة، وإذا أقرّا بأن لا مهرَب من التنازلات وإعادة صوغِ تحالفات مرحليّة إذا أرادا حقّاً التوصّلَ إلى تفاهمات تُفيدهما وتفيد العالم.
قبل سنوات، كانت الولايات المتّحدة تُصرّ على استبعاد الاتّحاد السوفياتي عن ملفّ النزاع العربي – الإسرائيلي، وكانت موسكو تَبني التحالفات مع الأطراف العربيّة لتقويضِ الاستفراد الأميركي بالملفّ. اليوم، يتوجّه الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى العاصمة الروسيّة ليُبلغَها رفضَه وساطة الأميركيّين بعد اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس «عاصمةً لإسرائيل». وفي زيارته هذا الأسبوع إلى الكرملين، أوضَح الرئيس عباس للرئيس بوتين أنّه يَبحث عن رعاية دوليّة لعملية سلام بدلاً من الرعاية الأميركية. ردُّ بوتين كان أيضاً واضحاً، إذ أبلغ عباس أنّه تحدّثَ مع ترامب هاتفياً حول الخلافات الفلسطينيّة – الإسرائيلية. بذلك أوصَل إليه رسالة فحواها أنّ موسكو ليست راغبة بأن ترِثَ عن واشنطن عبءَ الوساطة. استنجاد أبو مازن بروسيا لم يؤدِّ إلى إقبال موسكو بشغَف لتكونَ بديل الوسيط الأميركي. موسكو استخدَمت كلاماً ديبلوماسياً في رفضِها تلبيةَ الاستنجاد، فتحدّثَت بلغةِ أنّه لا يمكن أن يكون هناك وسيط واحد. اقترحَت إنعاش «اللجنة الرباعية» الّتي تضمّ روسيا والولايات المتّحدة والأممَ المتحدة والاتحاد الأوروبي، والّتي تحوَّلت في الآونة الأخيرة إلى رباعية صامتة رمزيّة وهامشيّة. بكلام آخر، استنتَجت روسيا أن لا معطيات متوافرة لحلّ النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، فآثرَت ألّا ترِث المعضلة وألّا تقتَحم ما تعدّه واشنطن.
وزير الخارجية الأميركي ريكس تيليرسون طرَح أثناء جولته الشرق أوسطية التزامَ إدارةِ ترامب التوصّلَ إلى سلامٍ بين الفلسطينيّين وإسرائيل، وقال في القاهرة إنّه «ينبغي التوصّل إلى اتّفاق على الحدود الجغرافيّة للقدس بين إسرائيل والفلسطينيّين» ممّا كان مؤشّراً إلى أنّ اعتراف واشنطن بالقدس عاصمةً لإسرائيل لا يعني «القدس الموحّدة» كما أراد الإسرائيليّون. بُحِث هذا الموضوع في المحطّات المصرية والأردنية واللبنانية، نظراً لعلاقات هذه الدول بملفّ النزاع مع إسرائيل، ولمَّح إلى مواقف ومقترحات ومبادرة أميركيّة في صددِ هذا الملف.
الأردن، بصورة خاصة، يتمسّك بحلّ الدولتين لأنّه يُدرك أنّ ما في ذهن إسرائيل هو إلغاء حلّ الدولتين وإحياءُ المقولة الإسرائيلية بأنّ «الأردن هو الوطن البديل» للفلسطينيّين. واشنطن لن توافقَ على مِثل هذا الطرح الإسرائيلي، وهي تُعزّز العلاقات الثنائية مع الأردن كردٍّ ورسالة لإسرائيل من خلال توطيدِ العلاقات الأمنية والسياسيّة والعسكرية والاستخباريّة الأميركيّة – الأردنية. فالأردن مهمّ لإدارة ترامب كشريك أساسي في الاستراتيجيّة الأميركيّة الجديدة للشرق الأوسط، والرئيس الأميركي اتّخذ قرار اعتبارِ الأردن ركيزةً في التحالف الذي تَبنيه واشنطن مع الدول العربية والإسلامية المعتدلة.
في مصر، أعاد تيليرسون ضبط العلاقات الأميركية – المصرية إلى ما كانت عليه قبل تخريبها في عهد الرئيس السابق باراك أوباما الذي احتضَنت إدارته صعود «الأخوان المسلمين» إلى السلطة باعتبار ذلك فرزاً طبيعياً للانتخابات والديموقراطية – الأمر الذي ساهمَ في أحداث مصر من «الربيع العربي» إلى استعادة سلطة الجيش. فمِصر في عهد الرئيس عبد الفتّاح السيسي هي أيضاً ركيزةٌ من الركائز الأساسية في استراتيجيّة ترامب. العلاقات معها تمتدّ من التعاون في الحرب على الإرهاب والتنسيق المصري – الإسرائيلي في الحرب ضدّ الإرهابيّين إلى مواقف مصر وأدوارِها في العمليّة السياسية في سوريا.
موسكو لا تخشى انعكاسات العلاقات الأميركية مع مصر والأردن على علاقات الدولتين معها. فهناك تواصُل دائم بين القاهرة وموسكو وتفاهمات حول سوريا وغيرها. والعاهل الأردني قام هذا الأسبوع بزيارة إلى موسكو للتأكيد على حسنِ العلاقات بين البلدين. فلا مزاحمة أميركيّة – روسيّة في هذا المجال.
الخلاف الأساسي بين واشنطن وموسكو هو حول تعريفِ النّهج الإيراني الاستراتيجي في المنطقة. روسيا «توافق النهجَ الإيراني في سوريا»، قال أحد المصادر الروسية الرفيعة المستوى «فنحن نُحارب مع إيران جنباً إلى جنب. عسكرياً، إنّنا جنباً إلى جنب. فكيف لا نوافق على النهج الإيراني في المنطقة؟». إدارة ترامب استنتَجت ذلك وصعَّدت مواقفَها ضدّ روسيا بعدما برَز عن موسكو ما أفاد بأنّها تعتبر أنّ «محور المقاومة» انتصَر في سوريا، وأنّ موسكو تنظر إلى خطر القواعد الإيرانية ومصانعِ الصواريخ بأنّه «ليس خطراً وارداً الآن»، إنّه «احتمال المرحلة المقبلة» حسب المصدر الروسي الذي اعتبَر الحديث عن هذه المسائل وعن تعاظمِ النفوذ الإيراني «استباقياً».
روسيا لا تُريد إبراز نفسِها في «محور المقاومة». تقول: لسنا جزءاً من «محور المقاومة» لكنّنا نتعاون معه في سوريا. رأيُ روسيا هو أنّ النظام في دمشق أنقَذ روسيا وسوريا من آفةِ الإرهاب «وهذا النظام استطاع أن يقاوم» بمساعدةِ أطراف «محور المقاومة»، بحسب المصدر. ويضيف «إنّ الأميركيّين شكّلوا تحالفاً كبيراً ضد محور المقاومة، أي القوى التي نتحالف معها. إذن لا مجال للتفاهمات.. والحديث البنّاء مع الأميركيّين شِبه مستحيل». هذا رأي قِطاع من قطاعات الآراء الروسية.
البانوراما الروسية، بحسب هذا الفريق، ترى أنّ «أميركا في حالة هستيريا ضدّ روسيا بالكامل، وأنّها تتصرّف بمنطق القطبِ الواحد في اعتباراتها الجيوسياسية، وأنّ النظام العالمي الحالي لا يتقبّل روسيا والصين. والاستنتاج هو: أميركا ضدّ روسيا في كلّ القضايا الأساسية».
رأيُ هذا المصدر لا يعكس المنطقة الرمادية في الأفكار الروسية. كلامُه مفيد لأنّه يوضح السقفَ الرسمي للمفاوضات والمواجهات. يقول إنّ مِن الصعب التصوّر أنّ الأميركيّين يريدون التعاونَ مع روسيا في سوريا لأنّ شروطهم «مستحيلة»، وهي: «تخريب محور المقاومة بمعنى اعتبار «حزب الله» إرهابياً وإيران دولةً معتدية مخرّبة، واعتماد مرحلة انتقالية في سوريا نحو نظام بديل جديد». وبحسب هذا المسؤول «لا أتصوّر حديثاً روسيّاً – أميركيّاً للحوار البنّاء بهذه الأجندة. أميركا وحلفاؤها يطلبون من روسيا تفكيكَ تحالفِها، فيما أميركا تريد تفكيكَ روسيا».
روسيا، يقول المصدر، ليست على عداءٍ مع حلفاء أميركا في المنطقة العربيّة عندما يتعلق الأمر باليمن وليبيا، مثلاً، إنّما الأمر يَختلف عند الحديث عن سوريا. ولبنان يشكّل امتداداً للحديث السوري ولا سيّما عند الحديث عن «حزب الله».
ما قاله ريكس تيليرسون قبل وصوله إلى بيروت عن أنّ «حزب الله» جزء من العملية السياسية اللبنانية اعتُبِرَ متناقضاً مع ما وصَفته أوساط «حزب الله» بأنّه يقوم بزيارة «تحريضية» ولا سيّما أنّه قال «إنّ «حزب الله» منظّمة إرهابية ولا فرق بين جناحيه السياسي والعسكري». تيليرسون طالبَ بانسحاب إيران من سوريا وبإيقاف «حزب الله» نشاطاته خارج لبنان، واعتبَر أنّ «تنامي ترسانة «حزب الله» وتورُّطه في الصراعات الإقليمية يُهدّد أمنَ لبنان». وقال إنّ على «مسؤولي لبنان الابتعاد عن صراعات المنطقة.. والتمسّك بسياسة النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية». وكلّ هذا لا يتطابق مع ما تُريده موسكو من إيران و»حزب الله» في سوريا. أقلّه حاليّاً.
رغم كلّ المسائل الخلافيّة المهمّة في تحديد العلاقة الأميركية – الروسية، أمام صنّاع القرار في البلدين أكثرُ من وسيلة لاختبار آفاقِ المنطقة الرمادية التي تُمكّنُ روسيا من الهبوط من السّلّمِ الذي اعتلته بتحالفاتها السورية، دون أن تؤذيَ مصالحَها القوميّة، وبكثير من الحفاظ على موقعِها المميّز في سوريا. المنطقة الرمادية تُمكّن الولايات المتّحدة أيضاً من إضافة عنصرِ تهذيبِ الثقة الضروريّة مع روسيا لإقناعها بأنّها لا تنوي تجريدَها من النفوذ والقواعد ومشاريع إعادةِ البناء في سوريا.
عنوان التوافق بين الكرملين والبيت الأبيض واضحٌ للطرفين إذا عملا معاً بعقلانية ومنطقية. هذا إذا كان التوافق هو حقّاً ما يُريده الطرفان جدّياً. عدا ذلك، لن يكون أحدهما المنتصرَ في الحرب مهما حقّقَ الانتصار في المعركة السوريّة.