كتبت غريتا صعب في صحيفة “الجمهورية”:
فقد الدولار في العام الماضي مقابل اليورو عشرة بالمائة من سعر صرفه. ويعدّ هذا ثاني اسوأ اداء بين العملات الرئيسية بعد الدولار النيوزيلندي. اضف الى ذلك ان هذا الانخفاض هو الاكبر منذ اكثر من عقد على الرغم من ثلاث جولات من ارتفاع في اسعار الفوائد، وإقرار الاصلاح الضريبي الذي يتباهى به ترامب.
يعود ضعف الدولار الى اسباب عدة يجب توضيحها، أولها سعر الفائدة. وفي الاجمال، يؤدي رفع الفوائد الى رفع قيمة سعر صرف العملة بسبب ارتفاع الطلب، وفتح شهية المستثمرين الاجانب على شراء الاصول الاميركية، كما انها تساعد على بقاء التضخم تحت السيطرة. اضف الى ذلك ان الاقتصاد الاميركي حظي، ولفصلين متتاليين، بقوة نمو بالاضافة الى مبيعات التجزئة في اواخر السنة والتي توحي بأنها ستتواصل.
كذلك توقّع الخبراء ان التخفيضات الضريبية ستعطي قوة دفع للاقتصاد بشكل عام. وحسب بعض خبراء السوق فإن مظاهر الحياة الاقتصادية في اوروبا وخاصة المانيا وفرنسا تسبّبت في هرب المستثمرين وتوجههم الى اليورو بدلًا من الدولار.
اضف الى ذلك رهان المستثمرين على ان البنك المركزي الاوروبي سوف ينهي برنامج شراء السندات على غرار الاحتياطي الفيدرالي بعد الأزمة المالية في العام ٢٠٠٨ قبل الموعد المرجّح، مما يعني ان هناك تكهنا بأن البنك المركزي الاوروبي قد يبدأ في رفع اسعار الفوائد في وقت لاحق من هذا العام او في اوائل العام المقبل، وهذا يؤكد فرضية زيادة الطلب على اليورو.
وفي المطلق وتاريخيًا، أميركا لا تنتظر ما سيحدث خارجًا لرسم سياستها النقدية والمالية وحتى الدولار الضعيف قد لا يكون الا نسبيًا ويقول بعض المحللين ان الاختلال السياسي في الولايات المتحدة الاميركية دفع الدولار في هذا الاتجاه، وهذا التفسير ليس غريبًا سيما وان المستثمرين عادة ما يكرهون عدم الاستقرار في السياسات ان كانت اقتصادية او تجارية او غيرها، مما يعني ان سياسة ترامب وما قدمته لغاية الآن من عدم استقرار داخلي ودولي جعلت المستثمرين يهربون من الدولار ويلجأون الى عملات اخرى سيما اليورو.
وقد بدأ الدولار يفقد دوره كعملة قوية دعمتها الولايات المتحدة كقوة عالمية وضمانة لأمن الدول المتحالفة لكن اذا ما تبين ان الدور بدأ يفقد وهجهه والولايات المتحدة بدأت تتنصل من دورها في هذا المضمار من اجل فكرة اخترعها ترامب وهي «اميركا اولًا» وسلوكه نحو التحالفات الدولية التجارية منها والسياسية والبيئية فهذا يعني حتمًا ان الولايات المتحدة بدأت تفقد من رمزيتها.
وحسب التقديرات، هناك حوالي ٧٥٠ مليار دولار اميركي من الاصول المسعرة بالدولار اي ما يعادل ٥ بالمائة من الدين العام سوف تتم تصفيتها واستثمارها في عملات اخرى مثل الين واليورو والرنيمي. اضافة الى امور داخلية عدة بدأت توحي بأنه لن يكون هناك التزامات نهائية في سياسة ترامب وكيفية تعاطيه مع الأزمة الكورية والاتفاق النووي المدرج مع ايران. كل ذلك لن يساعد مطلقًا في جعل اميركا الضمانة الاهم للعالم.
وهناك كلام كما هي الحال في كتاب مايكل وولف Fire and fury” أن سياسة ترامب تخفّف من قيمة الدولار واهميته كعملة احتياط وملاذ آمن للمستثمرين. وفي العام ٢٠١٧، وفي دراسة مهمة لـ Eichengreen من جامعة كاليفورنيا و Melel و Chitu من المصرف المركزي الاوروبي حول فرضية قيمة الاحتياطي، كتبا ان لها وجهان: الوجه الاقتصادي ويعني السلامة والسيولة والاثار المترتبة على وجود الشبكات الاقتصادية والجانب الجيوسياسي والذي يعكس استراتيجية البلاد وقوتها العسكرية والدبلوماسية. ولاحظوا انه منذ العام ١٨٩٠ وحتى ١٩١٣ غالبا ما تختار الدول احتياطها وفق الميثاق الدفاعي السائد، حتى عندما تقتضي الامور الاقتصادية خلاف ذلك.
على سبيل المثال، فإن دولا مثل اليابان وكوريا الجنوبية تعتمدان على الولايات المتحدة وتمتلكان حصة اكبر من احتياط النقد الاجنبي من الدولارات مقارنة بفرنسا وروسيا والصين والتي تمتلك قدرات دفاعية ونووية- لذلك قد تكون سياسة ترامب الحالية مثار قلق للعديد من الدول، وما حدث اخيرًا مع كوريا الشمالية مدار قلق ليس فقط لليابان وكوريا الجنوبية بل انه اختبار جديد لأميركا كونها تتعامل مع اشخاص مستعدون لتحديها على مختلف الصعد والنووية بشكل خاص.
هذه التفسيرات من جملة امور تجعل من الدولار يتراجع على الصعيد العالمي. انما وحسب الخبراء والاقتصاديين فان توقعات الضرائب وتأثيرها على الاقتصاد الاميركي قد يكون على المدى القصير، لكن الوضع سيبقى بلا تغيير على المدى الطويل، سيما وان الفئات التي طالتهم التخفيضات الضريبية يميلون الى عدم الاسراف في الانفاق وحفظ الاموال – اضف الى ذلك ان الولايات المتحدة لم تعد الدولة الوحيدة او بالاحرى النقطة المضيئة في الاقتصاد العالمي الا ان هناك مناطق اخرى بدأت تظهر انتعاشًا سيما الصين واقتصادها المتوازن واوروبا التي اظهرت في الفترات الاخيرة تحسنًا ملموسًا، واميركا اللاتنية سيما البرازيل والارجنتين بعد سنوات من الركود.
اضف الى ذلك، المصارف المركزية الكبرى سيما في المملكة المتحدة واوروبا وهم على طريق رفع اسعار فوائدهم بعد ان كانت مصفّرة او سلبية، مما يعني اننا بدأنا نشهد تقاربًا في السياسات النقدية العالمية بعد تمايز لأميركا لسنوات خلت وهي علامة صحية انما تساهم الى حد بعيد في ضرب سعر الدولار.
لذلك قد تكون السنة ٢٠١٨ استمرارًا لتراجع الدولار رغم تعافي الاقتصاد الاميركي ومؤشراته لأنك عندما تنظر من منظور اوسع فإن النمو العالمي واسعار الفوائد العالمية يمكنك ان ترى لماذا الدولار يتراجع ويضعف.