تحت عنوان «روسيا في الشرق الأوسط: اللعب على كافة الحقول» عقَد «نادي فالداي» مؤتمراً يومَي الإثنين والثلثاء افتَتحه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف بنبرةٍ مزَجَت بين التّحذير والإنذار والدعوة إلى الحوار. تحذير لافروف أتى بصيغة اتّهام الولايات المتّحدة باتّخاذ «خطواتٍ استفزازيّة» في محاولات «تقسيم سوريا» وإنذار «الزّملاء الأميركيّين بألّا يلعبوا بالنار». أمّا الدعوة الى الحوار فأتَت عبر دعم الصيغة لتوطيد أسس التعاون بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي التي تقدّم بها رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن «فنحن نَدعم هذه المبادرة»، قال لافروف. ظريف حذَّر من تفرّع الشبكات الإرهابية إلى «عتبة روسيا وإيران» وأنذَر من إفرازات «بدعة» السياسات والتّهم الإسرائيلية الجديدة وإلقاء اللوم على إيران وروسيا في سوريا. أمّا دعوتُه الى الحوار فوجَّهها الى دول مجلس التعاون الخليجي للاتّفاق على «آلية جديدة للأمن الخليجي» تضَع «ترتيباتٍ أمنيّة إقليمية» في حوارٍ ينطلق من الفقرة 8 في القرار 598 للعام 1987 الذي دعا الى وقفٍ فوريّ لإطلاق النار بين إيران والعراق وقبِله آية الله الخميني وكأنّه «يتجرّع السم» حسب تعبيره. الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس دعَم في مؤتمر ميونيخ فكرة إيران قال ظريف، لإقامة حوار «لإجراءات بناء الثقة» بناءً على مبادئ تنطلق من «عمليّة هلسينكي» بحيث يتمّ الحوار الإقليمي عبر «منتدى» إقليمي للتواصل، وقال «في وسع روسيا أن تلعب دوراً جذرياً في النموذج الجديد».
كاتبة هذا المقال سألت ظريف إن كان النظام الأمني الجديد يشترط تفكيك «مجلس التعاون الخليجي» لأنّه النظام الأمني القائم حالياً لدول الخليج العربية، وهل الدعوة هي إلى دول وليس إلى كتلة دول. جوابه كان لافتاً إذ قال «لا هذا، ولا ذاك. لا ككتلة ولا كدولة بمفردها». هكذا تحايَل الديبلوماسي الظريف بابتسامته الشهيرة على السّؤال كي لا يصدّ الباب. فلو قال إنّ الفكرة هي أن تأتي دول مجلس التعاون الخليجي كدول متفرّقة إلى الحوار حول نظام أمني إقليمي جديد، فإنّه يؤكّد بذلك أنّ الخطوة والفكرة الأهمّ لدى طهران هي بالفعل تفكيك «مجلس التعاون الخليجي» الذي يُشكّل نظاماً أمنيّاً مشترَكاً للدول العربية الخليجية. ولو أنّ طهران ترضى «بمبادرة الحوار الجديدة» لتكون مع كتلة «مجلس التعاون الخليجي» لأضعفَت موقعَها في المعادلة.
لافروف تطوَّع أن يتناولَ السؤال ليَشرح أنّ هدفَ موسكو هو إقامة «آليّة ثقة» في الخليج و»لا أحدَ يقترح تذويب أو حلّ مجلس التعاون الخليجي». قال إنّ مبادرة روسيا هي بهدف جلوس العرب وإيران معاً بصفتهما المعنيّين تدعمهما في هذا الحوار الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا وفرنسا) وجامعة الدول العربية والاتّحاد الأوروبي.
هذه ليست المرة الأولى التي تطرح فيها طهران فكرة إنشاء نظام أمني جديد وتتحدّث بلغة الحوار ومبادئ «هلسينكي». بل إنّ ظريف تحدّث أيضاً بلغة «احترام الحدود الوطنية» للدول إنما فقط عندما تطرَّق الى «داعش» والمنظّمات الإرهابية الأخرى. فعندما سألته كاتبة هذا المقال عن كيفية التوفيق بين مبدأ «احترام الحدود» ومبادئ هلسينكي وبين عبور «الحرس الثوري» الإيراني الحدود الى سوريا والعراق وعبور «حزب الله» الحدود الى سوريا وغيرها، وتصدير نموذج الجيش الموازي للجيش الوطني، ردَّ ظريف بقوله: إنّ إيران متواجدة فقط «حيث تلقّت دعوة رسمية من الحكومات»، و«إسرائيل هي مَن يخرق أجواء سوريا ويُسقط طائرات»، إمّا في تصرّف «كارثي استراتيجياً» أو «نتيجة خطأ استراتيجي» واصفاً اصطحابَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قطعة قال إنّها من طائرة إيرانية من دون طيار دخلت المجال الجوّي الإسرائيلي بأنّها «بدعة».
ما لم يكن بدعة هو قول نتنياهو أمام مؤتمر ميونيخ للأمن «سنتحرّك إذا لزم الأمر ضدّ إيران نفسها وليس ضدّ وكالائها فحسب»، مضيفاً «لديّ رسالة للطغاة في طهران: لا تَختبروا عزم إسرائيل». هذا الكلام التصعيدي أُخِذَ على محمل الجدّ من قبل البعض وتمّ النظر إليه من قبل البعض الآخر بأنّه مجرّد كلام استهلاكي. الديبلوماسية الروسية لا تُغامر في علاقاتها الإسرائيلية أو الإيرانية. لذلك حرص لافروف على القول «لا يمكن لنا أن نوافق على مقولة إنّ إسرائيل يجب تدميرها… ولا يمكن لنا أن نوافق على النظر إلى كلّ المشكلات بأنّها نابعة من إيران».
وما هي الآليات لدى روسيا التي قد تضمَن عدم اندلاع مواجهة إيرانية – إسرائيلية في سوريا أو عبر لبنان سألت الكاتبة. ردّ لافروف أنّ «الآلية هي قوات فكّ الاشتباك للأمم المتحدة في هضبة الجولان ومنظمة مراقبة الهدنة التابعة للأمم المتحدة». وتابع أنّ «للآليتين حق التحقيق في الأحداث، ومن المفيد في نظري إجراء التحقيقات».
ما شدَّد عليه لافروف هو «أنّنا نريد أن يكون الإسرائيليّون في أمنٍ وأمان في أراضيهم، لكن هذا يجب أن يكون مبنيّاً على التبادلية «على أساس مبادئ الأمم المتحدة. ما نُقِل عن لسان السفير الروسي في إسرائيل تعمّد التأكيد على التزام روسيا القاطع أمن إسرائيل، وذلك عندما قال إنّ في حال اعتداء إيران على إسرائيل ستقف روسيا مع الولايات المتحدة في صفٍّ واحد للدفاع عن إسرائيل.
رغم هذا، إنّ الرسالة الأبرز التي تعمَّدت موسكو الرسمية وبرنامج مؤتمر نادي «فالداي» إطلاقها هي التأكيد على خصوصيّة العلاقة الروسية- الإيرانية وأن لا تراجع في هذه العلاقة في هذه المرحلة. الرسالة الأخرى التي كان إبرازها متعمّداً هي استمرار انعدام الثقة بالطرف الأميركي ممّا عزَّز الانطباع بأنّ موسكو من منصّة «فالداي» وعبر افتتاح المؤتمر بجلسة لوزيرَي الخارجية الروسي والإيراني – كانت تردّ على واشنطن ومطالبها، وطهران الى جانبها.
فقد كان مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر قال قبل يومين من ميونيخ إنّه «آن الأوان للتصرّف ضدّ إيران» للتصدّي لـ«شبكة الوكلاء» التي تُديرها في سوريا واليمن والعراق. موسكو أرادت إبلاغ ماكماستر أنّها لا توافقه رأيه وأن لا انفصالَ في الأفق بين موسكو وطهران.
إنما ما لا تريده موسكو هو تأجيج النزاع مع واشنطن أو الظهور بأنّها توافق إيران في التحريض على القوات الأميركية، كما فعل علي ولايتي، مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي الذي دعا «المقاومة الإسلامية» الى منع انتشار القوات الأميركية شرق الفرات في العراق. قوله إنّ «على جبهة المقاومة أن تحول دون انتشار القوات الأميركية تدريجاً شرق الفرات» لا يُساعد موسكو ولا توأمة طهران نفسها مع موسكو في سوريا.
الديبلوماسية الروسية تبدو متوتّرة بعض الشيء هذه الأيام. تبدو في قلق وحيرة وهي تمشي الحبل المشدود في علاقاتها مع دول الشرق الأوسط ومع الولايات المتحدة الأميركية.
الكلامُ التصعيدي العلني لا يطمر تلك الرغبة بأن تقع التفاهمات الروسية- الأميركية ليس في سوريا فحسب وإنما على كافة المجالات وفي كل الحقول. بل إنّ الاكتفاءَ بتفاهم في سوريا ليس من أولويات روسيا التي تُريد تلك «الصّفقة الكبرى» لتسوية الخلافات بقليل من التنازلات من أوكرانيا الى الشرق الأوسط.
هناك مؤشرات على اعتقادٍ في موسكو أولاً بأنّ الحرب الإيرانية – الإسرائيلية لن تندلع وأنّ العلاقة مضبوطة، بغض النظر عن التهديدات المتبادَلة، وثانياً، أنّ الوهن سيُصيب السياسة الأميركية الحالية ضدّ إيران في سوريا بالذات بسبب ضبط العلاقة الإسرائيلية مع إيران في سوريا. هذا رهان قد يكون مدروساً بدقّة بناءً على خلفيات خفيّة، وقد يكون خطيراً إذا ساء تقدير وقراءة الرسائل الأميركية في حال كانت حقاً جدّية.
الديبلوماسية الروسية مخضرمة وحذقة وواعية لموازين العلاقات الثنائية مع واشنطن وأولويّتها على العلاقات الإقليمية، في نهاية المطاف. لذلك، وبغضّ النظر عن المظاهر بين طيّات الرسائل العلنية، هناك نكهة لشيفرة غير معلنة هي لغز من ألغاز الديبلوماسيّة الخلفية.