كتب السفير مسعود المعلوف في صحيفة “الجمهورية”:
بتاريخ الرابع عشر من شباط الجاري، استعمل شاب في ولاية فلوريدا لم يتجاوز بعد سن التاسعة عشر، بندقية رشاشة كان اشتراها قبل فترة بصورة شرعية وقتل 17 شخصاً معظمهم تلاميذ في مدرسة كان قد طُرد منها العام الماضي. ليست هذه المجزرة الأولى التي تقع في الولايات المتحدة في السنوات الماضية سواءٌ في مدرسة (2012)، أو جامعة (2007)، أو ملهى ليلي (2016)، أو صالة سينما (2012)، أو ساحة عامة (2017) أو معبد (2017) أو مكان عام آخر، حيث يقتَل العشرات في كلّ من هذه المجازر بصورة عشوائية وبلا أيّ مبرر.
تُعتبر الولايات المتحدة أكثر دولة على الإطلاق تشهد عمليات قتل بواسطة الأسلحة النارية، ليس فقط في حالات قتلٍ جماعي على غرار ما حصَل في فلوريدا، بل أيضاً وبنسبة مرتفعة جداً، في حالات إطلاق نار لأسباب متنوّعة، وهي تحتلّ هذه المرتبة ليس من حيث عدد القتلى فحسب بل أيضاً بالنسبة الى عدد السكان.
يختلف السياسيون والباحثون والمواطنون حول أسباب هذه النسبة المرتفعة جداً من الجرائم، ويبرز الموضوع بصورة لافتة بعد كلّ حادثة قتل جماعي، وذلك عبر تحرّكات ومظاهرات وتجنيد لوسائل الإعلام على مختلف أشكالها، فمنهم مَن يُعيد هذه الأسباب الى حالات وأشكال من الأمراض النفسية، ومنهم مَن يُعيدها الى انتشار الأسلحة الفردية، بما فيها الرشاشة، في صفوف الشعب وإمكان شرائها بسهولة كبرى وبصورة قانونية.
لقد أظهرت الدراسات والإحصاءات أنّ الأمراض العقلية والنفسية التي يُعاني منها المسؤولون عن الجرائم الجماعية في الولايات المتحدة، موجودة في سائر دول العالم، بما فيها الدول المتقدّمة، إلّا أنّ مثل هذه الجرائم عندما تحصل في دول أخرى، فإنها تحصل بصورة استثنائيّة، بينما هي تتكرَّر باستمرار في الولايات المتحدة، حاصدةً الأبرياء من مختلف طبقات المجتمع وفئاته.
أما بالنسبة الى قانونية شراء الأسلحة الفردية، فإنّ الأمر يعود الى العام 1791 حيث صدر التعديل الثاني للدستور الأميركي الذي يضمَن حقّ المواطن في اقتناء وحمل السلاح من دون معوقات مهمة.
لقد صدر هذا التعديل الدستوري عندما كانت الولايات المتّحدة في بدايات نشوئها كدولة مستقلة تتعرّض لحروب وهجمات قبل أن يكون لديها جيش نظامي ثابت، وهي كانت تحتاج في ذلك الوقت الى مساعدة الشعب للدفاع عنها عبر تشكيل ميليشيات دفاعية (وفقاً لمنطوق هذا التعديل)، كما أنّ السبب الآخر لتكريس حقّ الشعب في اقتناء السلاح آنذاك كان لتمكين المستوطنين الجدد من الدفاع عن أنفسهم تجاه هجمات الهنود الحمر، أصحاب الأرض الأصليّين، إضافة الى إعطاء الأفراد حقّ الدفاع عن النفس في وقت لم تكن فيه الدولة قادرة على حماية مواطنيها.
ولكن على الرغم من انتفاء هذه الأسباب في الوقت الحاضر، ما زال كثيرون يتمسّكون بالحقّ في شراء واقتناء وحمل السلاح الناري، ومحلات بيع هذه الأسلحة كثيرة ومنتشرة بشكل واسع، بحيث يستطيع المواطن شراء مسدّس أو بندقية رشاشة بسهولة كبرى، بعد أن يقوم البائع بإجراء تحقيق روتيني سريع للتأكّد من أنّ الشاري ليست لديه سوابق إجرامية.
الشاب الذي نفّذ مجزرة فلوريدا تمكّن من شراء عدد من البندقيات الحربية بلا صعوبة، إضافة الى الرشاش الذي استعمله بما في ذلك مئات الرصاصات، وذلك على الرغم من نشره المسبَق على صفحته على «فايسبوك» معلومات تَشي برغبته الواضحة في القتل بواسطة السلاح الرشاش.
إنّ أشدّ المدافعين عن حقّ السكان باقتناء الأسلحة النارية، حتّى الرشاشة منها، ليسوا فقط المزارعين الذين يعيشون في مناطق نائية ويشعرون بحاجتهم للدفاع عن أنفسهم من حيوانات مفترسة وعصابات اللصوص، بل بصورة خاصة اللوبي المرتبط بمصانع الأسلحة والمعروف بإسم «الجمعية الوطنية للبندقية».
هذه الجمعية تشكّل أقوى قوة ضغط (لوبي) في الولايات المتحدة على الإطلاق، ولها تأثير على أعضاء الكونغرس يفوق تأثير اللوبي الإسرائيلي الذي ينشط فقط في مجال السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط وتجاه إسرائيل بالذات. إنّ لوبي الأسلحة يدافع عن أصحاب مصانع الأسلحة ويُموّل بسخاء الحملات الإنتخابية سواءٌ التشريعية أو الرئاسية للذين يلتزمون الحفاظ على هذا التعديل الدستوري.
معروف أيضاً أنّ هذا اللوبي يُموّل، إضافة الى حملات المرشحين الذين يتعاطفون معه، مراكز دراسات ومنظّمات مختلفة تُجري بين الحين والآخر أبحاثاً تُظهر مسؤولية الأمراض العقلية والنفسية في جرائم القتل المتكرّرة على الأراضي الأميركية، موضحة أنّ الذي يقتل ليس السلاح بل إنّه الإنسان ولذلك ينبغي، برأيهم، معالجة مشكلة الإنسان وليس السلاح.
أما المطالبون بوضع بعض القيود على شراء الأسلحة الرشاشة، فإنّهم يشيرون الى ما حصل في بريطانيا بعد مجزرة عام 1987، وأوستراليا بعد مجزرة 1996، حيث وضعت كلّ من هاتين الدولتين بعض القيود على شراء الأسلحة النارية، فاقتصرت بعد ذلك أحداث القتل الجماعي العشوائي على أمور تتعلق بالإرهاب أو السطو بحيث لم يعد بإمكان مواطن عادي شراء واقتناء الأسلحة بسهولة.
جدير بالإشارة هنا الى أنه يوجد ما لا يقل عن ثلاثمئة مليون قطعة سلاح فردي بأيدي نحو مئة وخمسين مليون أميركي وفق الإحصاءات الرسمية التي تشير أيضاً الى أنه في العام 2013 حصلت 11،208 جرائم قتل (بما فيها بعض حالات القتل الجماعي العشوائي) و505 حالات وفاة بسبب إطلاق نار خاطئ وغير مقصود في الولايات المتحدة، بينما في اليابان التي يبلغ عدد سكانها ثلث السكان الأميركيين، لم تحصل سوى 13 جريمة قتل.
أشدّ المؤيّدين لعدم تغيير القوانين الحالية ينتمون في معظمهم إلى الحزب الجمهوري وقد كان لوبي السلاح أوّلَ المؤيّدين لحملة دونالد ترامب الإنتخابية للرئاسة تحت شعارات مثل حرية الفرد وتمكين المواطنين من الدفاع عن أنفسهم ضدّ الإرهابيين والمهاجرين الجدد الذين اتّهمهم المرشح ترامب بأنّهم مجرمون ومهرّبو مخدرات. بينما تقتصر مطالب الراغبين في التغيير على مزيد من التشدّد في التحقّق من خلفية الشاري وأهليّته لاقتناء الأسلحة، وعدم السماح ببيع الأسلحة الرشاشة للمواطنين، إذ إنّها أسلحة حربية تقتنيها الجيوش ولا يجب أن تكون في أيدي الأفراد وهي أسلحة هجومية وليست دفاعية.
تزداد طبعاً النقاشات والحملات بعد كل حادثة، كما تُطرَح أفكار للحلول، أهمّها وضع أجهزة مراقبة على مداخل المدارس والجامعات كما يحصل في المطارات، ولكن يرفض كثيرون هذا الحلّ لكي لا تتحوّل الأماكن الدراسية الى محميات عسكرية، كما يقترح آخرون وضعَ مراقبين مسلّحين داخل المدارس لحماية التلاميذ والطلاب والأساتذة، إلّا أنّ هذه الإقتراحات تواجهها أيضاً معارضة للأسباب نفسها، والسياسيّون في مجلسي الشيوخ والنواب يتبادلون التهم حول مسؤولية مَن أوصل الأمور إلى هذا الحدّ، وبعد فترة ينسى الجميع الموضوع الى أن تحصل مجزرة جديدة.
إلّا أنّ الأمور قد تختلف قليلاً بعد حادثة فلوريدا، إذ إنّ الطلاب أنفسهم بدأوا يتحرّكون بقوة في وجه لوبي السلاح ويطالبون بالتحقيق المعمَّق في خلفية مَن يبغي شراء السلاح الفردي وبعدم السماح بمبيع الأسلحة الحربية الرشاشة للمواطنين، وقد دعوا إلى تظاهرة كبرى يوم 24 آذار المقبل في كلّ أنحاء الولايات المتحدة، كما أنّ بعض الليونة بدأت تظهر لدى عدد من القادة الجمهوريّين في اتّجاه تحقيق المزيد من الرقابة على متاجر الأسلحة، علماً أنّ ترامب نفسَه أبدى موقفاً فيه بعض التقدّم في هذا المجال بعدما كان من أكثر المُصرّين على معالجة الوضع من زاوية الأمراض العقلية وليس من زاوية تعديل القوانين السائدة.
في أواخر هذا العام ستجرى انتخاباتٌ تشريعية، ولا شك في أنّ هذه القضية ستكون من أبرز المسائل المطروحة في حملات المرشحين، وستُظهر نتائج هذه الإنتخابات ما إذا كان لوبي السلاح سيستطيع مجدّداً إثبات قوّته بإيصال المرّشحين الذين لن يقبلوا بتعديل القوانين القائمة حالياً، أم أنّ الضغط الشعبي سيتمكّن من وضع حدٍّ لقوة هذا اللوبي، بحيث يشكّل ذلك، في حال حصوله، تغييراً قوياً في مجال العمل السياسي على الساحة الأميركية، إذ إنّه سيظهر أنّ هزيمة قوى الضغط الكبرى أمرٌ ممكن.