كتبت راغدة درغام في صحيفة “الجمهورية”:
تتقلَّص الدول «الضّامنة» لوقف النار في سوريا الى متورِّطة حتى أذنيها كشاهدٍ صامت أو كشريكٍ فاعل في مجزرة إبادة في الغوطة الشرقية في جنوب البلاد، وكغاطسٍ في معركةٍ ظنَّ أنه قادر على حسمها سريعاً «فوقع» ضحيّة غطرسته في عفرين شمال سوريا. روسيا فقدَت السّيطرة التي كانت تبدو قادرة عليها قبل فترة وهي الآن تفقد أعصابها على تعثّر الانطباع الذي حاولت صقله بأنّها هي مالك المفاتيح الأساسية في سوريا. إيران تتعرَّى في مجزرة الغوطة مهما حاولت الادّعاء بأن لا حول لها ولا قوّة أمام عزم القوات النظامية السورية على قَصف الغوطة حتى الإبادة. تركيا تُكابر وتُزايد وهي تبرم صفقة غض النظر عن الغوطة التي تُلاقي مصيراً أسوأ ممّا حدَث في حلب نتيجة صفقة تركية – روسيّة عام 2016، وذلك مقابل إعانتها في «الانتصار» في عفرين. هذه الدول الثلاث «الضامنة» باتَت موقع اتّهامات دوليّة سلَخَت عنها سُمعة السّعي وراء الحلول السياسيّة لسوريا، بعدما ازدادَت غرقاً في دم السوريّين الذي يُستنزَف على أيادي النظام والإرهابيّين على السّواء.
مرّت أربعة أيام قبل إطلاق أوصاف «الجحيم» و«حمام الدم» عندما بدأ العالم بالاستفاقة الى إبادة المدنيّين وصور أطفالٍ في جثث متراكمة بعضها وكأنّها في لوحة من العصور الماضية. ففي اليوم الرابع دعا الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريس الى وقف الجنون الذي حوَّل الغوطة «جحيماً على الأرض» موجّهاً «نداءً الى كل الأطراف المعنيّين من أجل تعليقٍ فوري للأعمال الحربية كافة في الغوطة الشرقية لإفساح المجال إلى جميع مَن يحتاجون اليها». مبعوثه الخاص الى سوريا ستيفان ديماستورا اعتبر الغوطة الشرقية «حلباً ثانية» إشارة إلى محاصرة وتدمير حلب قبل سقوطها عام 2016. زيد بن رعد، مفوّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان دعا إلى وقف «حملة الإبادة الوحشيّة» في الغوطة الشرقيّة. المدير الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للطّفولة (يونيسف) خيّرت كابالار قال «ليس هناك من كلمات بإمكانها أن تُنصف الأطفال القتلى وأمّهاتهم وأباءَهم وأحبّاءَهم».
ألمانيا كانت واضحة عبر تصريح للناطق باسم المستشارية الألمانية في اعقاب سقوط أكثر من 300 قتيل بينهم 71 طفلاً في غضون ثلاثة أيام. حمَّل روسيا وإيران المسؤوليّة عن مجزرة الغوطة وقال «نتساءل عن وعود روسيا وإيران خلال محادثات أستانا بضمان وقف النار في الغوطة الشرقية (المحاصرة منذ 2013) إذ نُدرك أنّه بلا دَعمهما لما استطاع نظام الرئيس السوري بشار الأسد التواجد في موقفه الحالي». طالب «نظام الأسد بوقف المجزرة في الغوطة فوراً والسّماح بوصول المساعدات الإنسانية» وحضّ «موسكو وطهران على الضغط على دمشق لتحقيق هذا الهدف».
فرنسا أيضاً طالبت روسيا وإيران بفرض احترام وقف النار في الغوطة الشرقية محذّرة على لسان وزير خارجيتها من «فاجعةٍ إنسانيّة». أمّا الولايات المتّحدة، فإنّها طالبت غبر الناطقة باسم وزارة الخارجية بوقف القصف وقالت إنّ «روسيا ونظام الأسد مسؤولان عن هذه الهجمات والوضع الإنساني الرهيب في الغوطة الشرقية».
ردود الفعل الروسية كانت فعلاً لافتة بعدما نفَت الاتهامات الاميركية و«نعتبرها بلا اساس ولا نوافق عليها» كما قال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف. فلقد سارعت موسكو الى تطويق تحرّك السويد والكويت في مجلس الأمن الداعي إلى قرارٍ لوقف النار لمدة شهر، وطلبت عقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن «للسّماح بعرض كلّ الأطراف أسلوب رؤيتها وفهمها للوضع السائد وإيجاد سبل لمعالجته» كما جاء على لسان السفير الروسي في الأمم المتحدة فاسيلي نيبنزيا.
هذه «القوطبة» الروسيّة كان هدفها منع انجرار مجلس الأمن الى إدانة ما يقوم به النظام السوري في الغوطة الشرقية وإلقاء اللوم على روسيا وإيران، الى جانب منع إصدار قرار يُوقف الزخم العسكري في الغوطة الشرقية والهادف إلى حسمٍ عسكري تُريده دمشق وطهران ولا تُعارضه موسكو.
ما حدَث عملياً هو سقوط الثلاثي «الضامن» لوقف النار في الغوطة الشرقية والتي هي إحدى مناطق «خفض التوتر» التي أقرَّها الضامنون الثلاثة روسيا وإيران وتركيا. نائب ديماستورا رمزي عز الدين رمزي الذي شارك في مؤتمر «نادي فالداي» في موسكو نقل إلى المسؤولين الروس قلق الأمم المتحدة على العملية السياسيّة التي يتمّ تنسيقها مع الروس. ذلك أنّ التصعيد في الغوطة الشرقية المُدرجة في مناطق خفض التوتر هدَّد مسار أستانا برمّته.
روسيا أرفقت غضبها من «ازدواجيّة المعايير» الأميركية في القضايا الإنسانية وقلقها من انعكاسات التّصعيد على رعاياتها السياسيّة بمحاولة التوصّل الى مخرجٍ بالتعاون مع أطراف إقليمية، في طليعتها مصر. فمصر باتَت تقريباً شبه الضامن الرابع في الغوطة الشرقية نفسها إذ إنّها ساعدت روسيا في التوصّل الى هدنة سابعة هناك، وموسكو احتاجتها الآن.
وزارة الخارجية المصرية المتكتّمة تقليدياً على أدوارها في المسألة السورية أصدرت بياناً دعا إلى «هدنة إنسانية لإدخال المساعدات الإنسانية وإجلاء الجرحى والمصابين لتجنّب كارثة إنسانية حقيقيّة». وكان لافتاً تضمّن البيان إدانة مصر «أيّ قصف للمناطق المدنية في الغوطة ودمشق وكافة أنحاء سوريا» في إشارة غير مباشرة ليس للقوات النظامية للغوطة الشرقية فحسب وإنّما أيضاً لقوّات الفصائل المسلّحة التي تقصف من الغوطة الشرقية أحياء دمشق ولقوّات تركية تقصف في عفرين.
فمصر تنظر الى التصعيد العنيف في الغوطة الشرقية بأنّه ضربة ضدّ الجهد المصري الذي نجَحَ في التوصّل إلى اتّفاق هدنة كان ضامنها مصر وروسيا. إنّها ترى دوراً مميّزاً لها عن تركيا التي تخوض حربها ضدّ العناصر الكرديّة في أراضي عفرين السورية. وهي لا تُمانع أن تكون روسيا في حاجة الى الوساطة المصرية في سوريا، وأن تساهم القاهرة في إيجاد مخرجٍ لموسكو أمام تعاظم الضغوط الدوليّة على روسيا. لذلك الكلام عن تنسيقٍ دقيق عالي المستوى بين مصر وروسيا يرتكز جزئياً الى استخدام النفوذ الروسي مع النظام وإيران مقابل استخدام النفوذ المصري مع ما يُسمّى «مجموعة القاهرة» من المعارضة السورية والتي لبعض أو أحد رموزها وصول الى الفصائل المسلّحة المتواجدة في الغوطة الشرقية.
الإخراج لن يكون سهلاً. فموسكو في صميمها تريد الانتهاء كلياً من الفصائل المسلّحة في الغوطة الشرقية التي كانت طالبتها «بوقف المقاومة وإلقاء السلاح» طوعاً بلا نتيجة وهي تعتبر اليوم أنّ «عملية التفاوض من أجل الوصول الى تسوية سلميّة في الغوطة أجهضت» كما جاء عن «مركز المصالحة» الروسي في قاعدة حميميم. وبالتالي إنّ موسكو، ضمناً، قد تعتبر أن لا مناص من مصير كمصير حلب للغوطة الشرقية.
تُدرك موسكو أنّ انهيار مسار أستانة بات وارداً جداً، وأنّ هذا يقع في المصلحة الأميركية في الوقت الذي يزداد فيه التشنّج في العلاقات الروسية- الاميركية. الديبلوماسية الروسية تُحاول اللعب على الحبال المشدودة. إنّها في حاجة الى مصر في جنوب سوريا كضامنٍ معها، وهي تعقد الصفقات مع تركيا في شمال سوريا بصفتها ضامن أستانة، مع أنّ مصر وتركيا في حال عداء. إنّها تدافع عن الضامن الإيراني كيفما كان وأينما كان لأنّها لا تخشاه في سوريا بقدر ما تخشاه في القوقاز.
بالأمس كانت روسيا تبدو واثقة، تمتلك جميع المفاتيح في سوريا، السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتستعدّ لتوزيع الحصص وإعادة الإعمار على أساس أنّ الحرب انتهت وأنّ روسيا وحلفاءها ضمنوا الانتصار. اليوم، إنّ روسيا قلقة في حيرة وتبعثر. فلقد اعتقد الروس أنّ العدو المشترك لهم وللأميركيّين كان قاعدة «كافية» لتحقيق نقلة نوعية في العلاقات الثنائية، لذلك كان «داعش» مفيداً. اليوم، وكما قال أحد الروس، «اكتشفنا خطأ افتراضنا أساساً. ثمّ إنّ العدو المشترك لم يعد هناك».