كتب بروفسور جاسم عجاقة في صحيفة “الجمهورية”:
يبدو من تصاريح المسؤولين في الدولة اللبنانية، أن مُشكلة قطع الحساب قد تمّ حلّها من خلال تعليق العمل بالمادّة 87 من الدستور. إلا أن المُشكلة التي لم تُحلّ حتى الساعة تبقى مُشكلة العجز في الموازنة والتي من الظاهر أن حلّها لن يكون سهلًا.
تُشير أرقام المالية العامّة الموجودة على البوابة الإلكترونية لوزارة المال، أن إجمالي العجز التراكمي منذ العام 2004 وحتى تشرين الأول 2017 بلغ 44.47 مليار دولار أميركي. رقم صادم خصوصًا عند معرفة أنه يُشكّل 55.7% من إجمالي الدين العام.
سبب العجز كما أصبح معروفًا يأتي من بنديّن أساسيين: الأول بند الأجور في القطاع العام والذي إرتفع من 2.38 مليار دولار أميركي في العام 2007 إلى 5.63 مليار دولار أميركي في العام 2018 أي بزيادة 137% لتُصبح معه كتلة الأجور 37% من إجمالي الإنفاق و43% من إجمالي الإيرادات. الثاني بند دعم مؤسسة كهرباء لبنان والذي بلغ مجموعه منذ العام 2007، 18.5 مليار دولار أميركي ليقارب الـ 1.7 مليار دولار في العام 2018 على الرغم من أسعار النفط العالمية المُنخفضة.
وكان لهذان البندان الدور السيئ في خلق عجز مُزمن في الموازنة تحوّل إلى دين عام إزدادت معه خدمة الدين العام (بلغ إجمالي خدمة الدين العام على نفس الفترة ما يوازي 50 مليار دولار أميركي). هذه الزيادة في الدين العام زادت من العجز بحكم أن قيمة الميزان الأوّلي لم تستطع تغطية كلفة خدمة الدين العام مما أدّى إلى تحوّل هذه الأخيرة إلى دين عام!
شكّل عجز الموازنة في العام 2004 ما يوازي 9.6% من الناتج المحلّي الإجمالي ليرتفع إلى 13.9% في العام 2006 مع عدوان تمّوز. النشاط الإقتصادي الذي أعقب عدوان تمّوز أدّى إلى خفض العجز إلى 5.8% في العام 2011، لكن الأزمة السورية وتداعياتها على الإقتصاد اللبناني كما وركود الإقتصاد العالمي، أدّى إلى رفع العجز إلى 9.5% في العام 2013 ليُعاود الإنخفاض في العام 2014 مع إنخفاض أسعار النفط العالمية. لكن الأعوام التي تلتّ رفعت العجز ليصل إلى حدود الـ 10 %!
الذهاب إلى باريس 4 مع هذا المُستوى من العجز سيُشكّل ضربّة للبنان من ناحية أن مستوى هذا العجز غير مقبول عالميًا (المعايير العالمية أقلّ من 3%)، وبالتالي لن يتمكّن لبنان من حصد المبالغ التي يطلبها. من هذا المُنطلق تُحاول الحكومة والقوى السياسية جاهدة خفض الإنفاق في الموازنة.
فقد أصدر رئيس الوزراء سعد الحريري تعميمًا طلب فيه من الوزارات والمؤسسات الرسمية «خفض تقديرات الاعتمادات لكافة بنود الانفاق (بإستثناء الرواتب وملحقاتها) لمشروع موزانة 2018 بنسبة 20% تماشيًا مع سياسة ترشيد الانفاق وضبط المالية العامة».
لكن المشكلة تكمن في أن بندي الأجور وخدمة الدين العام يُشكّلان 75% من إجمالي الإنفاق، وبالتالي فإن الخفض يطال الـ 25% الباقية أي ما يوازي 5% من إجمالي الموازنة. هذا الخفض لن يسمح بمحوّ العجز المُقدّر بأكثر من 10% هذا العام، مما يعني أنه يتوجّب خفض الإنفاق أكثر من ذلك. هذا الأمر سيدفع من دون أدنى شكّ الحكومة إلى خفض المُساعدات الإجتماعية مثل الصناديق الصحيّة والدعم على المازوت والقمح وغيرها.
لكن هذا الخفض لن يُشكّل أكثر من نسبة ضئيلة لا تزيد عن الـ 1% في أحسن الأحوال. الجدير ذكره أن خفض الإنفاق الجاري (أي الـ 25%) سيؤدّي إلى شلّ حركة المؤسسات والوزرات بشكل دراماتيكي وستكون له تداعيات سلبية على النموّ الإقتصادي.
بهدف لتغطية العجز المُتبقّي، تجد الحكومة نفسها أمام عدّة خيارات كزيادة الضرائب أو الخصّخصة أو تخفيض كلفة الدين العام:
زيادة الضرائب لن تمرّ بسهولة ولن يكون الخيار الأول للحكومة نظرًا إلى الإستحقاق النيابي المُقبل. من هذا المُنطلق ستأخذ المُزايدات الإنتخابية بالتكاثر في حال قامت القوى السياسية في السلطة بمثل هذا الإجراء مما سيُكلّفها ثمنًا سياسيًا باهظًا ليست مُستعدّة لدفعه.
خصّخصة القطاع العام هو من الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي على الدول التي تطلب مُساعدته. والسؤال المطروح: هل الوقت الحالي ملائم لخصّخصة بعض المرافق العامّة في لبنان؟ من الواضح أن الوقت غير ملائم لأنه حتى لو تمّت عملية الخصّخصة بشفافية مُطلقة، فإن أسعار السوق في ظل الظروف الحالية ليست لمصلحة الدوّلة اللبنانية وبالتالي ستكون نتائج الخصّخصة محدودة في الوقت.
أما تخفيض كلفة الدين العام، فهو أمرٌ مُعقّدٌ يحتاج إلى ظروف مالية ملائمة. فتخفيض الفائدة يمرّ بعمليات swap على الدين لكن نجاحها مشروط بفوائد مُنخفضة وهذا الأمر ليس متوفرًا حاليًا، أو عبر هندسات مالية قد لا تكون سهلة التطبيق.
الخيارات الإقتصادية الأخرى موجودة ومنصوص عليها في النظريات الإقتصادية. فمُعظم الإقتصاديين يرون أنه من الممكن القبول بعجز بشرط أن يكون بهدف تحفيز النمو الإقتصادي خصوصًا في قعر الدورات الإقتصادية.
هذا الخيار يفرض على السلطة إقرار خطّة إقتصادية واضحة ثلاثية الأضلاع:
أولًا – ترشيد الإنفاق العامّ من خلال خفض الإنفاق الجاري خصوصًا بند الأجور ودعم مؤسسة كهرباء لبنان.
ثانيًا – محاربة الفساد الذي يؤذي بشكل كبير خزينة الدوّلة ويحرمها من مليارات الدولارات وهذا أمر معروف على الصعيد العالمي.
ثالثًا – الإستثمار إن مباشرة من خلال الإستدانة أو من خلال إشراك القطاع الخاص بهدف تحفيز النمو الإقتصادي. الجدير ذكره أن لا امكانية لنموّ إقتصادي من دون إستثمارات.
هذه الخطّة يجب أن تمتدّ على الأمد البعيد ضمن رؤية إقتصادية واضحة مع إلتزام كلّي من قبل السلطات اللبنانية بتنفيذ بنودها.
في الواقع العجز الحالي والإستدانة التي تقوم بها الدوّلة اللبنانية هي بالدرجة الأولى لتمويل إنفاقها الجاري وهذا أمر غير مقبول في الأسواق المالية حيث يتمّ تحديد الفائدة على أساس كيفية إستخدام الأموال والمُدّة اللازمة. لذا نرى أن إبراز خطّة إقتصادية واضحة مبّنية على العناصر الثلاثة الآنفة الذكر مع إلتزام كامل من قبل السلطات بتطبيقها ستكون كافية لتأمين ما يستوّجب من باريس 4.
في الختام لا يسعنا القول إلا أنه حتّى ولو قبل المُجتمع الدوّلي بإقراض لبنان 17 مليار دولار أميركي، من دون الإصلاحات الآنفة الذكر، ستتحوّل هذه الأموال إلى دين عام يُصبح معها لبنان في وضع لا يُحسد عليه. لذا اليوم مطلوب من السلّطة السياسية أن تُظهر لناخبيها وللعالم أنها على قدر المسؤولية.