كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
بعد الانتخابات، لن تتغيَّر المعادلة السياسية الداخلية كثيراً، بل ستتكرَّس. فـ»حزب الله» لا يحتاج إلى الانتخابات ليُصبح الأقوى في السلطة وصاحب القرار، فهو اليوم في هذه الوضعية. لكنه، بعد الانتخابات، وبفضل قانونها، سيكون الرأس الذي يُدير كلّ شيء، والذي تدور حوله القوى الأخرى كافة، على ضفّتي «8 و14».
سيكون عبثياً أن يُفكِّر أيّ طرفٍ داخلي بإضعاف «حزب الله» بعد الانتخابات، كما كان ذلك عبثياً قبلها. وأكبرُ المغامرات الفاشلة لتحقيق هذا الهدف كانت أزمة «استقالة» الرئيس سعد الحريري، والتي كانت محاولة لكسر نفوذ «الحزب» بإسقاط الحكومة التي تمنحه التغطية الوطنية.
ونتيجة للأزمة، كاد لبنان يصل إلى فتنة أهليّة وانهيار أمني وسياسي واقتصادي، من دون أن يُصاب «حزب الله» بأيّ خسارة مباشرة. واضطرت القوى الدوليّة والإقليميّة، حتى تلك التي تُسجّل مآخذ على «الحزب»، إلى أن تُعيد الأمور إلى نصابها على قاعدة «ليس في الإمكان أفضل ممّا كان».
المثير هو أنّ الحريري، قبل الأزمة، كان يسير في نهج التسوية الملائم لمصالح «حزب الله» بخجل وتحفّظ. لكنه، بعد الأزمة، صار أكثرَ وضوحاً وجرأة، وبات أكثرَ عدائية مع حلفائه السابقين المناهضين لنهج «حزب الله». وقد عبّر عن ذلك في احتفال «البيال» الأخير، شكلاً ومضموناً.
المدافعون عن الحريري لا تنقصهم الحجج لتبرير مواقفه، ويقولون: شبِعْنا شعاراتٍ وأوهاماً لم توصلنا إلى أيِّ مكان. وفي السياسة لا مكانَ إلّا للواقعية.
والواقعية هي أنّ إيران، ومن خلالها «حزب الله»، هي الأقوى في لبنان وكل بلدان الشرق الأوسط. ولا بدّ من التعايش مع حالة «الحزب» إلى أن تتغيَّر الظروف في المنطقة كلها.
يضيف هؤلاء: لقد خاض المحور المضاد لـ«حزب الله» وإيران معارك ضارية في مواجهته، على مدى سنوات، في سوريا والعراق ولبنان، مدعوماً بقوى دولية كبرى. لكنّ الجميع، على أرض الواقع، بدا مهتمّاً بالتفاهم مع هذا المحور في كل بلدان المنطقة. وعلى العكس، منحه الاعتراف والدعم بوصفه الشريك في مواجهة الإرهاب.
فكل الدول التي تقاتل المحور الإيراني، من اليمن والبحرين إلى العراق وسوريا ولبنان وغزة، تقف عاجزةً عن هزيمته ومنع تمدّده في الشرق الأوسط. وأدّى اتفاق فيينا على ملف إيران النووي والإفراج عن أرصدتها المجمّدة، إلى تقوية نفوذها في المنطقة، بتغطية من الولايات المتحدة وأوروبا.
وخاضت إسرائيل حرباً عاتية ضد «حزب الله»، في تموز 2006، لكنها دمَّرت لبنان وبناه التحتية ومؤسساته وأغرقت الشعب اللبناني في مزيد من الكوارث والديون، ولم تهزم «حزب الله»، بل هو خرج منها رافعاً شعارات النصر، وازداد رصيد سلاحه في لبنان بعدما كان محشوراً إلى حدّ ما بمطالبة «14 آذار» نزع هذا السلاح بدعمٍ دولي، غداة خروج السوريين وانتفاضة 2005.
إذاً، عندما تخوض القوى الإقليمية، من عربية وغير عربية، والقوى الدولية، معارك شرسة مع المحور الإيراني و»حزب الله» في اليمن والعراق وسوريا وتنتهي بالفشل، هل تجوز مطالبة اللبنانيّين بالانقضاض على «حزب الله» في الداخل ومواجهته، علماً أن لا طاقة لهم ولا حَوْل، فيما هو يمتلك ترسانةً من السلاح تتكفّل بهزيمة الجيوش؟
ومَن يمتلك القدرة على وقف الفتنة المذهبية أو الطائفية إذا اندلعت في لبنان، ومَن يستطيع حماية مَن، في محيطٍ كلُّ بلدانه ملتهبة وكلُّ شعوبه منغمسة في حروبها الخاصة؟
والأهم، وفق هؤلاء، هو أنّ القوى الدولية والإقليمية التي تطالب اللبنانيين بمواجهة «حزب الله» وتقليص دوره هي التي تقع عليها المسؤولية عن نموّ نفوذ إيران على مدى فترات تاريخية طويلة، وهي التي عليها اليوم أن تضطلع بدورها في إضعاف إيران مباشرة، لا إضعاف «حزب الله».
فضرب الرأس هو الذي يمكن أن يؤدّي إلى نتيجة، وليس ضرب الأطراف. والقادر على ضرب الرأس هو القوى الإقليمية والدولية وليس المواطنون اللبنانيون الذين لا يمتلكون شيئاً من عناصر القوة في مواجهة المحور الإيراني الشديد التنظيم والتمويل والتسلّح.
هذا الكلام الذي يقوله المدافعون عن الحريري، يقول مثله النائب وليد جنبلاط الذي يرفع شعار تمرير المرحلة منذ سنوات. أمّا الرئيس ميشال عون فهو السبّاق في الانتقال كلياً من محور «14 آذار» إلى محور «حزب الله». وحتى القوى المسيحية الأخرى في «14 آذار»، والمستقلّة، التي ترفع الصوت اليوم ضدّ انجرار البلد في نهج «الحزب»، سارت هي الأخرى في تسويات ومساومات مختلفة، في فترات مختلفة، وتحت عناوين مختلفة، في نهج يلائم «الحزب».
في هذه الحال، الجميع سيخضع لمنطق سيطرة «الحزب» بعد الانتخابات. ومن المكابرة أو التوهُّم أن يراهن طرفٌ على إضعاف «حزب الله» بعد الانتخابات. وعلى العكس، ستخلو الساحة لـ»الحزب» ويشكّل الحكومة التي يريدها، وسيدير البلد وفق ما تمليه مصالحه، وسيأمل في اختيار خلف الرئيس ميشال عون، خصوصاً أنّ غالبية القوى والشخصيات السياسية ستكون «رهن رضاه».
علمياً، المعطيات القائمة في ظرف محدَّد تؤدّي إلى نتائج محدَّدة. ومن العبث المراهنة على تغيير النتائج ما لم تتغيَّر المعطيات. فهل يمكن أن تتبدَّل المعطيات الدولية والإقليمية والمحلية القائمة، والتي تجعل من «حزب الله» قوةً يصعب إضعافها في الداخل اللبناني؟
المتابعون يعتقدون أنّ الفرصة الوحيدة لتبديل المعطيات هي أن يُصاب المشروع الإيراني بضربة قوية في الشرق الأوسط. فإيران وسَّعت نفوذها بسهولة إلى بغداد. والحكومة المركزية هناك تدور في المحور الإيراني. وقد حصلت على ترضية أو «رشوَة» أميركية بمنع استقلال كردستان العراق.
ولكن، إذا انقطع الجسر الإيراني فوق سوريا، فستكون الخسائر جسيمة. وليس واضحاً أين سيكون موطئُ القدم الإيراني في سوريا، إذا سيطر الأميركيون على الشرق والشمال الشرقي عبر الحدود مع العراق، من زاوية الحدود مع الأردن جنوباً حتى الحدود مع تركيا شمالاً، وسيطرت روسيا على بقعة الرئيس بشّار الأسد من الحدود مع تركيا والبحر المتوسط في الشمال الغربي إلى دمشق فالحدود مع إسرائيل جنوباً، مروراً بالخط الحدودي مع لبنان.
بالتأكيد، سيكون للقوى الإقليمية، تركيا وإسرائيل وإيران، أن تحافظ على بعض المصالح في سوريا الجديدة، ولكن لا مجال لجسرٍ إيراني يمتدّ من طهران إلى بغداد ودمشق فبيروت.
في هذه الحال، سيكون أمام «حزب الله» معطى جديد يجب أن يتكيَّف معه داخلياً وإقليمياً. وقد يصبح أكثرَ اقتناعاً بأنّ حمايته المثلى هي انضواؤه في الخيار اللبناني. وحتى ذلك الحين، لكل حادث حديث.